“عند التغيّرات الكُبرى إحفظ رأسك”، مقولة تتردّد في المفكّرة السياسية اللبنانية وتتناقلها شعوب الدول الصغرى وتعتمدها سياسات الكثير من الدول المُستضعفة التي تخشى على وجودها إنْ ازعجت الدول الكبرى في لحظات إجراء التسويات المصيرية. قد يكون من المُبرّر والمتوقّع أن تلجأ الدول الصغرى الى هذا التكتيك حمايةً لنفسها خلال هبوب عواصف التغيّرات الكبيرة، ولكنْ ما ليس مقبولاً أن يتحوّل بعض المُتاجرين في السياسات الوطنية في هذه الدول الصغيرة، الى بهلوانييّن خادمين للقوى الفاعلة، أكانت إقليمية أو دولية، فعندها تحلّ المصيبة الكبرى على شعوبهم، لأنّ أداءَهم الخدماتي يتناقض تماماً مع المبادئ الوطنية، فتنعكس سلبياته على المفاهيم الوجودية، وتُعرّض حركتهم السلم الأهلي لخطر الصراعات والاقتتال، لذلك قد يُسمّى “خيانة”.
عندما تجرى التسويات الاقليمية في المسار الإيجابي، توضع الشروط المُتبادلة بين الأطراف الكُبرى للتفاهم على إدارة شؤون المنطقة، وتُدعّم بالاتّفاقات التي تحفظ الأدوار، وتُحدّد الخرائط الاقتصادية والأمنية والسياسية، وتُفتح الأبواب لدخول الأطراف الصغيرة الى التحالفات والمجالس الاقتصادية، تكريساً لأجواء الاستقرار الاقليمي والداخلي للدول المُكوّنة للإقليم، وهذا الواقع يدفع باتّجاه التطوّر والازدهار، اللذين قد يتفاوتان بين دولةٍ وأخرى، ولكن نتيجةً للتفاهمات والتسويات يُعمَل على معالجة التباينات كي لا تُؤدي آثارها المتفرّقة الى صراعاتٍ مُكلِفة. وتستمرّ الأمور ساريةً بسَلاسة حتى ظهور مستجدّاتٍ أساسية كفيلة بخرْبطة التسويات القائمة وبإدخال المنطقة في عمليّات كرٍّ وفرّ جديدة وبمواجهاتٍ غير مضبوطة، قد تأخذ أشكالاً مُختلفةً إقتصادية ومالية ودبلوماسية، وربما عسكرية مباشرة أو على الأرجح غير مباشرة، حيث تستغلّ الدول الكُبرى، تلك الدول المُلحقة بها لخوض المواجهات ولدفع الأثمان عنها، وُصولاً الى تسوياتٍ جديدة.
تتجنّب كافة الأطراف السياسية الداخلية في الدول الصغرى في هذا العالم “القرية الكونية” المُرتبطة قضاياه بعضها ببعض، لعب دور النقيض المُزعج للتسويات، لأنّها تُدرك أنّ تأثيرها محدود في اللعبة الكُبرى، ولكنّنا نتوقّع أن نشهد عملاء تسويات آتين من الدول الصغيرة، يعملون كسماسرة للتفاهمات، ويُقدّمون خدمات مُتّفق عليها بين أطراف التسويات، ويُحاولون لعب دور محوري أكبر منهم، طامحينَ من خلاله الى نيل توازنات لا علاقة لها بالحجم بل بالدور، وهذا أمر استراتيجي ووطني ورؤيوي. لكن لم يحدث في التاريخ أن يعمل أحد هؤلاء العملاء ضدّ مصلحة أوطانِهم، وهذا ما عنيته بالبهلواني، المسرور بدوره، والمُتباهي بذكائه الحادّ، والمغشوش بخياله عند الغروب، فيتكاذب ويتشاطر، ويُدعّم صورته بإثبات قدراته على إستمالة الشعب خلفه، ولكنّه في كل ذلك يتخلّى عن الضمير الوطني والانساني، كسباً للدور وللمركز. هذا البهلواني المطلوب منه تمرير بعض المؤامرات الضرورية لتسهيل التسويات على حساب مصالح وطنه، تسمح له أخلاقه أن يُصرّح في كل مقامٍ مقال ولكلّ مقالٍ أُكذوبة. فإرتياحه بالقيام بالخداع المُمنهج مبنيّ على مكانته لدى القوى الاقليمية التي تناسبها صفاته الانتهازية من أجل ترتيباتها، فالبدائل عنه هم رجال المبادئ الوطنية والقومية التي تُعرْقل التسويات. اللاّعبون الكبار بحاجةٍ دائماً لأفراد مستعدّين للمُتاجرة بالمبادئ وبالشعوب، يتجرّأون على إغراق الجماهير الهائجة بالشعارات الرنّانة المتطرّفة المُثيرة للعصبيات العمياء التي تموّه المشهد الوطني من أجل تمرير التسويات السوداء.
يحتوي لبنان حالياً على شخصية سياسية، تُناسب لعب هذه الأدوار، لأنّها أثبتت أنّ مفهومها للمسؤولية الوطنية مرتبط بهدفها الدائم المُتمثّل بحسابات الربح الشخصي، وليس المكاسب لأجل الوطن، وقد أكّدت مراراً أنّ تشاطرِها وتذاكِيها يخدم نظرتها القاضية بحماية تبعيّتها للدويلة الحاكمة بقوة الدعم الاقليمي. هذه الشخصية تُحارب التوعية الثقافية الوطنية لتذهب الى الدّكاكين الدعائية المتخصّصة باستمالة الجماهير خلف الشعارات المخادعة، وتحت العناوين المُدمّرة، وأسلوبها المُحبّب إستعمال كل ما هو غير شرعيّ لقهر كل ما هو شرعيّ، شخصية ينطبق عليها قول لجوزيف غوبلز “كلّما سمعت كلمة مُثقّف تحسّستُ مسدسي” ولكنّها أجبن من ذلك، لأنّها تُعوّل على مسدس من سلّمته القرار الوطني، صاحب السلاح غير الوطني.