عندما يعجز المجتمع الدولي، وطيلة سنوات، عن اتخاذ قرار يوقف العنف المتمادي ويتهرب من مسؤوليته الإنسانية في إنقاذ الشعب السوري من محنة لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها، وعندما تغدو البلاد ملعباً للتنافس على النفوذ والهيمنة بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية وتصل قوى الصراع الداخلية إلى حالة من الضعف والإنهاك تجعلها عاجزة عن الإقلاع منفردة لخوض مزيد من المعارك، وعندما يطول أمد القتال وتجرب فيه كل وسائل الفتك والتنكيل، ويصبح الضحايا السوريون مجرد أرقام باردة في عدّاد العنف والحصار والاعتقال والتشرد، عندها يمكن تفهم الرأي الذي لا يزال يعتقد بدور حاسم للتوترات الإقليمية في تغيير مسار الصراع السوري وأفق تسويته السياسية!ولكن، حين يغدو الصراع السوري عبئاً ثقيلاً على الجميع وتنحسر منافعه في معارك النفوذ والهيمنة، ويهدد انتقال عدواه إلى بلدان الجوار استقرارَ المنطقة، وإذا أضفنا تبلور تفاهم دولي قوي حول خطورة التنظيمات الجهادية، وفي مقدمها تنظيم داعش وحول أولوية مواجهتها ودحرها، وأضفنا أيضاً الأضرار التدميرية الناجمة عن استثمار كل الفرص ومختلف أنواع الأسلحة طلباً لحسم لن يتحقق، وآخرها التدخل العسكري الروسي الذي اصطدم ولا يزال بمقاومة شرسة لجماعات المعارضة المسلحة، وعجز تالياً عن تحقيق نصر سريع أو على الأقل تحصيل نتائج نوعية في تعديل توازنات القوى، وأضفنا أخيراً دور العنف الدموي في استنزاف قوى المجتمع السوري وقدراته، وهتك نسيجه الوطني، وإطلاق أسوأ ما تراكم فيه من سموم طائفية ومذهبية، نقف عند أهم الأسباب التي تشجع على عدم المبالغة والتخفيف من انعكاس التوترات الإقليمية على الصراع السوري والخطة الأممية لمعالجته سياسياً، والتي على العكس، قد تحض أطراف كل تأزم أو توتر إقليمي على السير نحو التهدئة والاحتواء وتقديم تنازلات متبادلة، تحسباً من الارتدادات والتداعيات الجسيمة المترتبة على احتمال انفلات الأمور نحو مواجهات مباشرة تضع المنطقة كلاً على برميل من البارود. من هذه القناة، يصح القول إن التوتر المستجد بين السعودية وإيران لن يتجاوز الحدود الدبلوماسية والاقتصادية المعروفة، يحدوه حرص الطرفين على تجنب مخاطر توظيفه واستثماره في الصراع السوري والمفاوضات السياسية المرتقبة، والدليل هو تأكيد الجانبين على حضور مؤتمر جنيف أواخر الشهر الجاري، وتصريح الرياض بأن الأزمة مع طهران لن يكون لها تأثير على جهود السلام في سورية، والدليل أيضاً أن توترات إقليمية أخرى يرتبط أطرافها عميقاً بالشأن السوري، بقيت تحت السقف المألوف، فتم تطويق التوتر بين موسكو وأنقرة على خلفية إسقاط الطائرة الروسية، ثم محاصرة التوتر التالي بين بغداد وأنقرة بسبب التمدد العسكري التركي على جزء من الأراضي العراقية، وبعدها تكرس التزام إسرائيل وحزب الله بالهامش المرسوم موضوعياً بينهما، بعد التصعيد الذي تلا اغتيال سمير القنطار!
صحيح أن التوتر بين السعودية وإيران هو الأخطر لجهة تنوع واتساع ما قد ينجم عنه من تداعيات إقليمية، حيث يمثل كل منهما رأس محور للنفوذ في المنطقة، وثمة مواجهات على جبهات متعددة في سورية واليمن والعراق والبحرين ولبنان، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة ضرراً فادحاً يدركه الجميع في حال اندفاع هذا التوتر إلى موقع أكثر حدة وإلى مواجهة مباشرة في منطقة تغص بآبار النفط، وأهم الممرات المائية، وتتزايد فيها مخاطر الجماعات الإرهابية التي تهدد الأمن والاستقرار الدوليين، ما يرجح تحسب الطرفين من الأسوأ وسعيهما لتجنبه، بما في ذلك تقبل وساطات ومبادرات ترمي إلى التهدئة، من غير أن نغفل احتمال تسخير اشتراطات التهدئة لتحسين الموقع التفاوضي قبل وضع أي حلول سياسية للقضايا الخلافية في المنطقة ومنها الصراع السوري!
لا يختلف اثنان على أن التفاهم بين روسيا وأميركا هو صاحب اليد العليا في نجاح أي تسوية سياسية، خاصة إن كان جدياً وتحكمه مصالح قوية متبادلة، وقد أثبتت التجارب أن مثل هذا التفاهم بين الدولتين العظميين، إذا ما قيس بتفاهمات دولية أو إقليمية أخرى، غالباً ما شق طريقه إلى التنفيذ، إقناعاً أو قسراً، والقصد أن العنصر الجوهري الذي يمنح التسوية السياسية في سورية بعض الصدقية والجدية، هو التوافق المستجد حولها بين روسيا وأميركا، حتى وإن لم يأخذا في الاعتبار آراء ومواقف أطراف إقليمية مهمة، كالسعودية وإيران، ولا يغير هذه الحقيقة استمرار اعتماد موسكو على دور طهران العسكري المباشر في تعديل توازنات القوى في سورية، أو حاجة واشنطن المستمرة إلى وزن الرياض للضغط على طهران والحد من توسعها الإقليمي!
من حق البعض أن يتوقع، في ظل تناوب التوترات الإقليمية وتصاعدها، تعذر التقدم جدياً في مفاوضات جنيف المرتقبة حول الشأن السوري، مرجحاً نهاية لها لا تختلف كثيراً عن مصير المفاوضات التي جرت، قبل عامين، في جنيف نفسها، ومستقوياً بما يعتقده هشاشة التوافق بين روسيا وأميركا، وبتعقيدات تنفيذ خطة الطريق التي خلصت إليها محادثات فيينا، وبأهداف مضمرة لأهم أطراف الصراع الداخلية التي من مصلحتها استمرار الوضع القائم وإفشال أي تسوية سياسية.
لكن وفي المقابل، ألا يحق، وربطاً بخصوصية المحنة السورية ومخاطر ارتداداتها، ترجيح أن تعمل التوترات الإقليمية كمحرك إضافي إلى جانب المحرك الإنساني لتحفيز المحادثات السياسية ودفعها إلى الأمام؟! أوَلا يصح القول إن حساسية الموقع السوري الذي شجع غالبية الأطراف العالمية والإقليمية على الاستثمار فيه من أجل زيادة مكاسبها وتعظيم نفوذها، قد تكون الحساسية ذاتها، السبب الحافز والمشجع على إخماد هذه البؤرة الخطيرة من التوتر ووأد تداعياتها وعواقبها، ربطاً بقناعة بدأت تترسخ لدى الجميع، بأنه من دون طي صفحة الصراع السوري وتسويته سياسياً، لا أمل في تحقيق الاستقرار وتجنيب المنطقة حروباً أشمل وأكثر مأسوية؟!.