IMLebanon

«التهديد الإسرائيلي الخفي: هل نحن أمام مشروع توسّعي يغيّر معالم الشرق الأوسط؟»

 

د. كولشان يوسف صغلام

 

خطابات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة حول تصاعد التوترات بين إسرائيل ولبنان، جاءت ضمن سياق نقده المستمر لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، موجهة تحذيرات صارمة لإسرائيل بشأن تبعات هجماتها على لبنان. تميزت تصريحاته بالحدة والقوة، واعتبرت امتداداً لمواقفه الثابتة ضد الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة.

في افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان التركي، وجّه أردوغان رسالة تحذيرية واضحة لإسرائيل، مفادها أن اجتياح لبنان لن يكون شبيهاً بعمليات الاحتلال السابقة التي قامت بها إسرائيل في المنطقة. هذه التصريحات تأتي في وقت تصاعدت فيه الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، حيث يُعتبر الرئيس التركي من أبرز القادة الإقليميين الذين ينتقدون بشدّة إسرائيل ويعتبرونها مسؤولة عن سلسلة من الجرائم والانتهاكات.

 

أردوغان أشار إلى أن إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو ترتكب جرائم متتالية ضد الإنسانية، مما يضعها في خانة مرتكبي الجرائم الكبرى على غرار ما ارتكبه النظام النازي بقيادة هتلر. من خلال هذا التشبيه الصريح بين نتنياهو وهتلر، يعيد أردوغان رسم ملامح الصراع في إطار أخلاقي يندّد بسياسات «الإبادة الجماعية» و«التطهير العرقي» التي تُمارَس في غزة ولبنان.

هذه المواقف ليست غريبة على الرئيس التركي؛ فقد سبق له أن انتقد إسرائيل بشكل علني، وفي سياقات مختلفة، حول سياساتها تجاه الفلسطينيين واللبنانيين. تصريحاته المتكررة تدلّ على أنه يتبنّى نهجاً ثابتاً يعارض أي نوع من التدخّل العسكري الإسرائيلي في المنطقة، سواء في غزة أو لبنان، معتبراً أن هذه التدخلات تُعدّ توسّعاً للسياسات الإسرائيلية التي تهدف للهيمنة على المنطقة.

 

في خطابه الأخير، أضاف أردوغان بُعداً جديداً لتحذيراته حيث قال إن «العدوان الإسرائيلي يشمل تركيا أيضاً»، مؤكداً أن أي تحركا إسرائيليا قد يتجاوز حدود فلسطين ولبنان قد يمتد ليشمل مصالح تركيا. من خلال هذا الربط بين العدوان الإسرائيلي والمصالح التركية، يحاول أردوغان إبراز أن النزاع ليس محصوراً بين إسرائيل وجيرانها المباشرين فقط، بل يمكن أن يؤثر على كل المنطقة، بما في ذلك تركيا.

في هذا السياق، من المهم تحليل هذه التصريحات من منظور العلاقات الإقليمية والجيوسياسية. تركيا منذ فترة طويلة تسعى للعب دور قيادي في الشرق الأوسط، خاصة في ظل تراجع الدور الأميركي وانشغال الدول الأوروبية بقضاياها الداخلية. تحذيرات أردوغان تعكس أيضاً رغبة تركيا في استعادة دورها القيادي في الدفاع عن الشعوب المضطهدة في المنطقة، خصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

 

التصريحات الأخيرة التي أطلقها أردوغان على منصة «إكس» (تويتر سابقاً)، والتي وصف فيها الهجمات الإسرائيلية على لبنان بأنها «غير إنسانية»، تدلّ على إصراره في التأكيد على أن تضع إسرائيل في موقف الدفاع عن سياساتها العدوانية. يطالب الرئيس التركي المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، خصوصاً مجلس الأمن، باتخاذ إجراءات عاجلة ضد هذه السياسات الإسرائيلية. كما دعا الدول الإسلامية إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً لوقف الهجمات على الشعبين الفلسطيني واللبناني.

من الواضح أن أردوغان يسعى إلى تسليط الضوء على ما يعتبره تواطؤاً دولياً في الجرائم الإسرائيلية، منتقداً بشدّة غياب المواقف الحاسمة من الدول الغربية. هذا النقد يندرج ضمن استراتيجية تركيا لتعزيز موقفها في المنطقة لا سيما في العالم الإسلامي، والترويج لنفسها كمدافع عن حقوق المسلمين في الشرق الأوسط.

لا شك هذه التصريحات تفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل العلاقات التركية – الإسرائيلية، التي شهدت في السنوات الأخيرة توتراً ملحوظاً. كما أنها تُبرز احتمالية أن تؤدي أي تصعيد إسرائيلي إلى تغييرات جذرية في موازين القوى الإقليمية، مع توقع أن تركيا ستقف بكل قوتها ضد أي تدخّل إسرائيلي جديد في لبنان. تشهد المنطقة العربية اليوم تحديات جسيمة، أبرزها التهديدات الإسرائيلية بالتوسّع العسكري والجغرافي. ما يجري اليوم ليس منفصلاً عن رؤية قديمة تتعلق بإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، وهي الرؤية التي تحدثت عنها كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، في كتابها الشهير. هذه الرؤية التي تحمل في طياتها إعادة توزيع النفوذ والسيطرة بما يخدم مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى، وتأسيس نظام جديد يتجاوز الحدود الحالية للدول، ويراعي طموحات تل أبيب في الهيمنة الإقليمية.

 

من بين الأدوات التي تستخدمها إسرائيل لتحقيق هذه الطموحات، النصوص الدينية من التوراة، التي يُكثر القادة الإسرائيليون من الاستشهاد بها في هذه الفترة تحديداً. هذه النصوص تفسر الحرب والقتل على أنهما جزء من مخطط إلهي لتحقيق «الدولة اليهودية الكبرى»، ويبدو أن إسرائيل تستغلها لإضفاء شرعية على أعمالها التوسعية. يبرز هذا التوجه في تصريحات قادة إسرائيل الذين يربطون بين النصوص الدينية وسياساتهم الحربية، ما يعكس تحولاً خطيراً نحو توظيف الدين كأداة تبرير لسياسات الاحتلال والعدوان.

أحد المخططات الأكثر خطورة والتي يجب الانتباه إليها هو «ممر داوود»، الذي يبدأ من الجولان السوري المحتل ويمتد عبر سوريا ليصل إلى مناطق سيطرة «الأكراد» على الحدود السورية – العراقية. هذا الممر إذا تحقق، سيؤمّن لإسرائيل السيطرة على مناطق واسعة تصل إلى حدود العراق، وهو جزء من حلمها بإقامة دولة إسرائيل الكبرى. اللافت أن هذا الممر يمتد على طول مناطق توجد فيها قواعد أميركية، ما يعني أن الولايات المتحدة قد تكون متواطئة أو على الأقل غير معترضة على هذا المشروع التوسعي، خاصة في ظل سيطرتها العسكرية على المنطقة.

تزامنت هذه المخططات مع تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي تحدث علانية عن ضرورة توسيع حدود إسرائيل، واعتبر أن الضفة الغربية يجب أن تُضم باعتبارها جزءاً من الأراضي الإسرائيلية. هذا التصريح يكشف عن دعم أميركي رسمي لمشاريع التوسّع الإسرائيلية، وهو ما يُعزز مخاوف المنطقة من أن الخطط الإسرائيلية ليست مجرد تهديدات جوفاء، بل هي جزء من سياسة طويلة الأمد تسعى لتنفيذها عبر التحالفات الإقليمية والدولية.

التقديرات الأمنية، ومنها تقارير المخابرات التركية، تشير إلى أن إسرائيل لا تسعى فقط لضرب لبنان في عملياتها العسكرية، بل تسعى إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو إقامة «ممر داوود» الذي يصل من الجولان إلى حدود العراق. إذا لم يتم إيقاف إسرائيل الآن، فإن هذا الممر قد يكون اللبنة الأولى لتحقيق مشروع الدولة الكبرى، التي تمتد حدودها وفقاً للطموحات التوراتية الإسرائيلية.

الخطط الإسرائيلية لا تقتصر فقط على العمليات العسكرية، بل تسعى أيضاً للتوسع من خلال وسائل أخرى، مثل شراء الأراضي في مناطق استراتيجية وغنية بالموارد. هناك معلومات و تقارير تشير إلى أن إسرائيل تحاول الاستحواذ على أراضٍ في سوريا والعراق وحتى في جنوب شرق تركيا، وذلك عبر وسطاء يستخدمون أسماء غير يهودية للتمويه. هذا التكتيك يذكرنا بما قامت به إسرائيل في فلسطين قبل عام 1948، حينما اشترت الأراضي تدريجياً عبر وسطاء حتى تمكنت من فرض سيطرتها عليها، لتكون اللبنة الأساسية في تأسيس الدولة الإسرائيلية.

من هنا، يجب أن نكون حذرين ومنتبهين لهذه التحركات التي تسعى لتحقيق أطماع توسعية في المنطقة. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان واضحاً في تحذيراته الأخيرة، حيث دعا الدول الإسلامية والمجتمع الدولي للوقوف ضد هذه المشاريع التوسعية، التي لا تهدد فقط لبنان أو سوريا، بل تطال مصالح الدول كافة في المنطقة. خطاب أردوغان يمثل نداءً عاجلاً لضرورة التصدي لهذه المخططات قبل فوات الأوان، فالمنطقة بأسرها قد تواجه تغيرات جيوسياسية كبيرة إذا نجحت إسرائيل في تنفيذ مخططاتها.

في الختام، لا بد من التنبّه إلى هذه المخاطر التي تتزايد يوماً بعد يوم. التوسّع الإسرائيلي ليس مجرد عمليات عسكرية عابرة، بل هو جزء من مخطط طويل الأمد يسعى لتغيير خريطة الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها، سواء عبر القوة أو من خلال شراء الأراضي والاستحواذ التدريجي. علينا أن نكون واعين لهذه المخططات وأن نعمل معاً لإيقافها قبل أن يتحقق الحلم الإسرائيلي بإقامة الدولة الكبرى التي تهدد استقرار المنطقة بأسرها.