أفضت الحرب الإسرائيلية إلى وصول الأمور إلى شفا الحرب الإقليمية التي تتعدّى لبنان وتصل إلى وكلاء إيران في الإقليم، وحتى طهران تحديداً، نتيجة التصعيد والتهويل بالردّ الإسرائيلي على الردّ الإيراني، مقابل تحذير إيران من تفاقم النزاع، على وقع «عمليات جسّ النبض» التي تقودها وحدات من ألوية المشاة وقوة «الإيغوز» (من الكومندوس) الإسرائيلية على البلدات الحدودية، خصوصاً لناحية إصبع الجليل، علاوةً إلى سلسلة الاغتيالات التي طاولت قادة «حزب الله»، من أمينه العام السيد حسن نصرالله وصولاً إلى قادة المناطق والفرق.
وفيما يُركِّز رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الهدف الأعلى الذي يكمن بعودة النازحين إلى شمال إسرائيل، فإنّه يسعى إلى تحقيقه عبر نتيجة يأمل بالوصول إليها، وهي تغيير خريطة النفوذ وقواعده في الشرق الأوسط، وتحديداً على حدود الدولة العبرية، أي أنّه يريد أن تكون حربه على لبنان «الأخيرة»، ليُخرج من عنق الزجاجة، بعد سلسلة إخفاقاته السياسية والشعبية والعسكرية والاستخباراتية في العامَين الأخيرَين.
وبدأت أمس تتبلوَر خطوات تحقيق الهدف الأعلى، فكان أولها إعلان محاولة احتلال بلدة كفركلا، شمال بلدة العديسة وجنوب بلدتَي حوره ودير ميماس، لإعادة مستوطني «المطلة» في إصبع الجليل. ويأملون بتحقيق ذلك، لأنّ احتلال البلدة اللبنانية الحدودية لو حدث، سيُمكِّن الإسرائيليِّين من فصل جنوب الليطاني عن قضاء حاصبيا، قاطعاً طريق إمدادات رئيسي على عناصر «حزب الله».
وحتى أنّ الجيش الإسرائيلي يضع السيطرة على كفركلا (ارتفاع 400 متر عن سطح البحر) كهدف أساسي وأول، ليس بسبب الأوتوستراد الرئيسي الذي يربط المنطقة بأقضية الشمال، بل لأنّها ستفتح الباب للسيطرة على خط نار مرتفع عن سطح البحر (900 متر) من خلال التلال المحاذية لبلدة الطيبة غرباً، وتُمهِّد لمحاولة السيطرة على الشريط الحدودي في القطاعَين الأوسط أولاً والغربي ثانياً.
كما وأنّ السيطرة الإسرائيلية على كفركلا ستكون نقطة رئيسة إلى نقل خط النار من حدود إصبع الجليل إلى بلدات قضاء مرجعيون (الطيبة، العديسة ورب ثلاثين) تزامناً مع التوغّل إلى بلدات قضاء بنت جبيل، أي بدء نقل المعركة حصراً إلى الأراضي اللبنانية، تقليلاً بالهجمات الصاروخية والمدفعية على شمال إسرائيل أو وسطها بدرجات مختلفة.
وتتزامن محاولة السيطرة تلك، لتأمين أفضلية ميدانية مَنوي تحقيقها لتأمين تغطية بالمدفعية والدبابات من هذه التلال، لتأمين حزام ناري على بلدات القطاع الأوسط الحدودية (مركبا وحولا وميس الجبل بنحو رئيسي).
وحتى أنّ التصعيد الإسرائيلي لن يقف عند هذا الحَدّ، أي بالسيطرة على جنوب الليطاني أولاً ثم الوصول إلى الأولي شمال صيدا، إنّما حطّت التهديدات الإسرائيلية بالوصول إلى بيروت إذا ما اضطرّوا، في تكرارٍ لما حدث عامَي 1978 ثم 1982.
لذلك، ليس هناك أي مؤشرات – حتى وإن كانت سياسية ديبلوماسية أميركية-فرنسية – على نيات وقف آمال التمدّد البري الإسرائيلي عند أي نقطة، لأنّ الأميركيّين لم يُقدِموا على وضع حواجز على التصرّفات الإسرائيلية، إنّما اقتصر دور إدارة الرئيس جو بايدن على «المَشوَرة»، في محاولة منه لحفظ ماء وجه الديموقراطيِّين على أبواب الانتخابات الرئاسية. فيما لم تُفضِ المساعي الفرنسية حتى اللحظة إلى أي نتيجة، غير داخلية لإعادة فتح النقاش في الانتخابات الرئاسية اللبنانية.
وتصل المواقف الأميركية التي لطالما زعمت تأييدها لحفاظ لبنان على سيادة أراضيه، إلى التهليل والإعجاب بالنتائج العسكرية الإسرائيلية، ولطالما فعلت ذلك، في أعوام 1967 و1973 و1978 و1982 و2006، ممّا يُشجّع اليمين المتطرّف الحاكم في تل أبيب إلى التوسّع جغرافياً في كل مرّة.
لذلك، تنتظر الدبابات الإسرائيلية ربما أياماً وفي الغالب أسابيع أو أشهراً، لتحديد أقصى حَدّ يُمكن أن تصل جنازيرها في «العملية البرية المحدودة والمركّزة»، وربما الإجابة عن سؤال بارز: هل تتكرّر «مجزرة الحجير» (حين دكّت قذائف «حزب الله» عشرات الدبابات الإسرائيلية خلال حرب تموز 2006) أم يتحقّق طموح أول بالوصول سريعاً إلى 10 كيلومترات في العمق اللبناني (أي حدود الليطاني) ثم التفكير بالأولي ومن بعده بيروت؟
لا شكّ في أنّ حركة جنازير الدبابات الإسرائيلية ستتحكّم بها نقطتَان رئيسيتَان: الأولى تكمُن في مدى ثبات عناصر «حزب الله» في وجه سلسلة اغتيالات قياداته وتقطّع أوصال الاتصالات، فيما الثانية تدور حول الوعود الإسرائيلية بمزيد من المفاجآت العسكرية والميدانية، لمحاولة أن يكونوا مَن يبادر وليس مَن يتلقّى.
أهدافٌ أخرى حقّقها الجيش الإسرائيلي وقد تخدم أمنه القومي على المدى الطويل، وهي تدمير البنى التحتية والمنازل والطرق والقرى الحدودية والجنوبية والبقاعية أولاً، ثم تهجير أكثر من مليون و200 ألف شخص. فماذا يعني ذلك؟
لا شكّ في أنّ تدمير المنازل والقرى سيؤجّل عودة النازحين في «اليوم التالي للحرب» فارضاً واقعاً إنسانياً وطويل الأمد ليكون ورقة ضغط دولية، وغربية تحديداً، على الأطراف السياسية اللبنانية التي ستتولّى الحُكم «إذا ما فقد حزب الله تأثيره».
إلى ذلك، إنّ قطع الطرق، ومنها معبر المصنع الحدودي، سيُشكّل ورقة اقتصادية ضاغطة لوصل مناطق النزاع بالمناطق الأخرى، ووصل لبنان بالممرات البرية الدولية الأخرى، لإدخال المواد الغذائية تحديداً والتجارة الدولية. فيما يبدأ التخوّف ممّا حذّر منه وزير الاقتصاد أمين سلام منذ أسبوع ونيّف، لجهة تأمين المواد الغذائية وبقية السلع في الجنوب والآن البقاع، والحفاظ على «عقلانية» في الأسعار.
أمّا لجهة التهجير، فإنّ الآلة العسكرية الإسرائيلية خدمت حكومتها السياسية، بإبعاد، ولو موقتاً، أكثر من مليون شخص يعادونها عن حدودها، وستتمكّن من فرض شروط في التفاوض على إنهاء الحرب. كما أنّها بتهجير أكثر من 100 ألف نازح سوري إلى بلده (بحسب الصحف السورية) فإنّها منعت إعادة تشكيل جماعات مسلّحة تستغل فقر النازحين السوريِّين. علماً أنّ التقديرات تشير إلى أنّ رقم النازحين السوريِّين العائدين إلى بلدهم تجاوز الرقم الرسمي بضعفَين، نتيجة المعابر غير الشرعية التي يصل عددها إلى 136، منها معبرا «حوش السيد علي» عند أطراف بلدة الهرمل الشمالية و»مطربا الحدودي» الذي نال نصيبه من الغارات، وهما تحت سيطرة «حزب الله».