تُعدّ الهيئات الناظمة في لبنان جزءاً أساسياً من بنية الحوكمة الحديثة، إذ أنشئت بهدف تنظيم القطاعات الحيوية وضمان الشفافية والتنافسية والامتثال للقوانين. وقد نصّ المشرّع اللبناني على إنشاء هذه الهيئات بموجب قوانين واضحة، أبرزها قانون تنظيم قطاع الكهرباء رقم 462 لعام 2002، وقانون تنظيم قطاع الاتصالات رقم 431 لعام 2002، وقانون الأسواق المالية لعام 2011. جاءت هذه القوانين لتكريس مبدأ الفصل بين الدور التنفيذي للوزارات وبين الدور التنظيمي الرقابي الذي يفترض أن يمارسه جهاز مستقل ومحايد، بعيداً من الضغوط السياسية والتجاذبات الطائفية التي تطبع النظام اللبناني.
غير أن التجربة اللبنانية في هذا المجال كشفت عن فجوة كبيرة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي. فعلى الرغم من إقرار الأطر القانونية، إلا أن الهيئات الناظمة بقيت بمعظمها مشلولة أو عاجزة عن أداء مهامها الجوهرية. ففي قطاع الكهرباء، ورغم مرور أكثر من عقدين على إقرار القانون، لم يتم تعيين مجلس إدارة هيئة تنظيم قطاع الكهرباء بشكل فعلي، مما أبقى إدارة القطاع بيد وزارة الطاقة والمياه من دون أي رقابة مستقلة. وقد أدى هذا التعطيل إلى استمرار السياسات العشوائية في إنتاج وتوزيع الكهرباء، ما ساهم في تعميق الأزمة المزمنة التي يعيشها اللبنانيون منذ سنوات.
أما في قطاع الاتصالات، الذي يشكل رافداً مهماً للخزينة العامة ومورداً استراتيجياً، فقد أنشئت الهيئة المنظمة للاتصالات بموجب القانون 431 بهدف ضمان الشفافية والمنافسة، إلا أن هذه الهيئة لم تُمنح فعلياً صلاحياتها كاملة، إذ بقيت معظم القرارات المتعلقة بالقطاع محصورة بيد الوزارة المعنية، ما حال دون تطوير هذا القطاع وفق أسس علمية ومهنية. كذلك الأمر بالنسبة لهيئة الأسواق المالية، التي أُنشئت عام 2011 لمراقبة الأسواق المالية والمصرفية اللبنانية، حيث أظهرت الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في عام 2019 حدود قدرة هذه الهيئة على التدخل الفعلي، بعدما تفاقمت الانهيارات المالية والمصرفية نتيجة غياب الضوابط والرقابة الفعّالة.
ويعود قصور أداء الهيئات الناظمة في لبنان إلى جملة من الأسباب البنيوية والمؤسساتية. فالتداخل الكبير بين السلطة السياسية والهيئات التنظيمية حوّل هذه الأخيرة إلى أدوات شكلية تفتقد الاستقلالية اللازمة لاتخاذ قرارات حاسمة. كما أن غياب التمويل المستقل والتعيينات القائمة على المحاصصة الطائفية لا على الكفاءة، زادا من هشاشة هذه الهيئات وجعلاها عرضة للضغوط والتجاذبات. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب المراسيم التطبيقية اللازمة لتفعيل عدد من القوانين، وعدم وضوح الصلاحيات بين الوزارات والهيئات، رسّخ حالة من التداخل والفراغ التنظيمي.
لا تقتصر تداعيات هذا الواقع على فشل هذه الهيئات في أداء دورها فحسب، بل تنعكس أيضاً على مجمل السياسات العامة في لبنان. فغياب هيئات ناظمة قوية ومستقلة أدى إلى سوء إدارة القطاعات الحيوية، وتفشي الفساد، وإهدار المال العام، وضرب ثقة المواطن اللبناني والمستثمر المحلي والأجنبي بالدولة ومؤسساتها. وبالتالي، فإن أي محاولة جادة لوضع لبنان على سكة التعافي الاقتصادي والإداري لا يمكن أن تنجح من دون إعادة الاعتبار لدور الهيئات الناظمة، عبر تحصين استقلاليتها، وتأمين تمويلها، وتعيين إداراتها وفق معايير الكفاءة والنزاهة بعيداً عن أي تدخل سياسي.
في هذا السياق، تصبح عملية إصلاح الهيئات الناظمة ضرورة ملحّة لا ترفاً إدارياً، إذ إن تفعيل دورها يعني ضبط الفوضى المستشرية في القطاعات الأساسية، ووضع حد للتدخلات السياسية التي عطّلت الاقتصاد اللبناني وأفقدته مقومات الاستدامة. إنها خطوة جوهرية نحو إرساء قواعد الحوكمة الرشيدة وبناء دولة المؤسسات، التي لطالما طالب بها اللبنانيون والتي لا يمكن لأي إصلاح اقتصادي أو اجتماعي أن يتحقق من دونها.