إعادة تأهيل خمسة شوارع في برج حمود
إسألوا السيّاح وأهل البلد، أرمنيين وغير أرمنيين، عن «كمب مرعش» في برج حمود وسيُخبرونكم عن البهارات الشهيّة والحرّ الأحمر اللذيذ الذي»يشلفط» متذوّقيه ولا يتذمرون، والكعك بكبش القرنفل والقرفة، والجاتا الأرمنية، وصانعي الأحذية والرتة، والجلسات الشعبية الجميلة، وصلابة النساء الأرمنيات، والزعيم عنتر… وإذا زرتم «مرعش» حديثاً فستجدون شوارع، كأنها استفاقت من «نوم طويل»، وعادت لتتدفق الحياة في أرجائها، في زمن البلد ومن فيه في سبات. فهل لمرعش سرّه أم أن القصّة وما فيها أن شوارع مرعش وجدت من ينتبه أن للناس حقوقاً أقلها بنى تحتية وإنارة ومساحات خضراء؟
إنه الشارع الموازي لشارع أراكس، الذي يتمدد مثله، من الجسر إلى الجسر. الأسعار دائماً أقل من سواها هنا. كيلو المشمش، أم حسين، بخمسة عشر ألف ليرة. كيلو البندورة بثمانية آلاف. أوقية بهار الحلو 40 ألفاً. أوقية الزنجبيل المجفف بسبعين ألفاً. كيلو زعتر حلبي «باب أول» بمئة وخمسين ألفاً. كيلو الطحينة، بالسمسم الصافي، بمئة ألف ليرة… ورجال كثيرون يجلسون على كراسي قشّ، أمام محالهم، ينتظرون زبوناً «لا يفاصلهم». يبدون كمن ملّوا من كثرة «المفاصلة»، على الرغم من البيع «بالرسمال». وأحدهم وضع يافطة أمام محله: No stupid people allowed. ووضع آخر: الضيافة على الزائر من دون إحراج. أصحاب المحال، كما السكان، كما كل لبنان يشعرون بالحنق الشديد من كل شيء. ووحدهما عنتر، الزعيم عنتر بحسب لقبه، والزعيم كلاشينكوف (في اللقب أيضاً)، يجلسان على قارعة الطريق يراقبان ما آلت إليه الأمور من أزمات ويتذكران الأيام المجيدة. فهل هذا معناه أن لا شيء جديداً يجعلهما يبتسمان؟ يدل «الزعيمان» في اتجاه واحد، إلى خمسة شوارع متفرعة، شكّلت ما يُشبه الضوء في مفاصل قاتمة كثيرة.
في شارع مرعش الرئيسي
نتجه نحو الشوارع الخمسة. تبدو الشوارع منسجمة أكثر مع من يعرف طبيعة السكان منذ نصف قرن. ننظر إلى فوق، إلى الأفق، فنرى السحب الزرقاء في السماء. هو أمر مستحيل في الشوارع الأخرى، حيث تُحيك الأسلاك الكهربائية ما يُشبه الحاجب بين أرض وسماء. ننظر حولنا فنرى مقاعد حجرية للمارة والسكان، وأحواضاً خضراء وإنارة حديثة وأرصفة وطرقاً مرصوفة حديثاً. فما قصة الشوارع الخمسة؟ جمعية UN- Habitat للمستوطنات البشرية في لبنان هي من أعادت تأهيل الأزقة الخمسة في مرعش ضمن بلدية برج حمود من خلال نهج التجديد الحضري المتعدد القطاعات، بدعم من الحكومة البولندية وسفارة اليابان في لبنان. منسق مدينة بيروت وجبل لبنان في UN- Habitat وائل سنو يقول: «يتحدث عن قبل وبعد before and after في مرعش، حيث تمثل الأزقة الجديدة نظرة إلى المستقبل». ويشرح: قمنا باجتماعات عديدة مع لجان الأحياء، قررنا على أثرها ما هم بحاجة إليه وفق طريقة scoring system، حيث تبين لنا حاجة الشوارع التي أنجزنا فيها المشاريع الجديدة الملحة إلى تحديث. وهي تضم 90 مبنى. وخطة التطوير من ثلاثة أقسام: القسم الأول قضى بتأهيل المباني والشوارع، من ترميم النوافذ والدهان وعزل الأسطح من المياه المتسربة وتطوير الشوارع. أما القسم الثاني، فله علاقة ببناء قدرات أهل الأحياء والبلدية، وهي برأينا من أهم الأقسام كوننا أشركنا أهالي الشوارع بالأعمال المنجزة، بعد تدريبهم عليها، ضمن مشروع «النقد مقابل العمل»، أي تقاضى هؤلاء أجوراً مقابل ما أنجزوه لصالح أحيائهم وباتوا شركاء في المشروع. والتدريب الذي خضعوا له سيسمح لهم بإيجاد أعمال مماثلة في المستقبل. كما ساعدنا الدفاع المدني في برج حمود، من خلال تأمين سيارة إطفاء صغيرة قادرة على العبور في الأزقة الضيقة. هذا القسم كانت له علاقة وطيدة بتطوير قدرات الناس. أما الشق الثالث من الأعمال فله علاقة بالأمن والسلام في الأحياء الخمسة، فوضعنا طاقة شمسية على سطح إحدى المطرانيات في مرعش، وأعطينا الكهرباء النظيفة لإنارة تلك الأزقة. وها نحن نرى ليلاً كل مرعش مظلمة باستثناء تلك الأزقة».
إنطلق المشروع في أوائل العام 2019 بدعم من الحكومة البولندية ثم، بعد كل التطورات السلبية التي شهدها لبنان، دخلت اليابان على الخط وساهمت في تمويل إكمال المشروع في ثلاثة شوارع منها. وما أنجز إستحق أن يشكل نموذجاً لما تحتاجه بقية الشوارع في المنطقة.
نراقب التفاصيل. الأزقة أصبحت مرقّمة ووضعت عند مدخل كل شارع آرمات تحدد طبيعة المحال الموجودة في كل شارع، فهنا الأرتيزانا ومحال العطور والأحذية وهناك محال تصليح الأحذية والملبوسات وهنالك مكتبة وماركت وقهوة وصالون تصفيف الشعر. نشعر وكأننا في منطقة تراثية طُورت فأصبحت نموذجية. ولهذه الفكرة أساس يتحدث عنها سنو: «تُشكّل الآرمات بأسماء المحال في الشوارع ما يُشبه الهوية الخاصة بكل شارع، فإذا أتى سائح يعرف كيف يتوجه، وماذا يجد في كل شارع، كما أننا حاولنا التشجيع على الشراء من المحال القديمة في الأزقة. هدفنا بالتالي أن يدخل الناس إليها ليجدوا ما يبحثون عنه عادة في سوق أراكس الأساسية بهدف تشجيع الإقتصاد في كل المنطقة. أمر آخر حرصنا عليه وهو العمل على خلق أماكن place making لتكون أشبه بواحات خضراء تُشكل استراحة للسكان والمارة. في هذا الإطار خلقنا حدائق صغيرة على مستوى الشارع وعلى الأسطح أيضاً لتشجيع السكان على الزراعة».
جميل جداً هذا المشروع الذي أنجزه برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UN- Habitat الذي ساعد سكان حيّ مرعش على مواجهة التحديات.
نتابع سيرنا في الأرجاء. إبن مرعش وعضو بلدية برج حمود نازاريت أبونيان أصبح يتجول يومياً، بعد انقطاع التيار الكهربائي في المنطقة، في الأحياء الخمسة المضاءة بالطاقة الشمسية. هو يحفظ التاريخ الأرمني القديم والحديث ولديه الكثير ليقوله عن مرعش والتأهيل الذي شهدته: «مرعش هو اسم ضيعتنا الأم في تركيا، وتقع بين قيليقية والأناضول. هرب أهلنا في العام 1915 من المجازر التي أصابتنا وسكنوا في مار مخايل طوال عشرة أعوام، في كميات من خشب وتنك. لاحقاً تمّ شراء هذه الأرض، الواقعة على ضفاف نهر بيروت، لجمع الأرمن في مكان واحد سمّوه مرعش».
إنتقل الأرمن في العام 1931 إلى هنا. وسميت، بحسب أبونيان، كل المنطقة مرعش (وبينها شارع أراكس). وكان يومها الإنتداب الفرنسي فقام جيش الإنتداب بمساعدتنا وحدّدوا الخطوط والشوارع والزواريب وأعطيت البيوت إلى الأهالي، بواسطة لجنة الشراء التي أصبحت لاحقاً جمعية مرعش، بمساحة مئة متر أو مئة دراع. هكذا جرى تقسيمها بشكل متساوٍ وسدد السكان الثمن على دفعات بسيطة، تتراوح بين خمس ليرات وعشر ليرات. وأصبحوا أصحاب المساكن.
جميع سكان مرعش كانوا أرمنيين باستثناء منطقة حارة صادر، الواقعة إلى جانب كنيسة مار يوسف، كانت تضم موارنة. وكان هناك نحو بيتين أو ثلاثة قاطنوها من الدروز. يضيف أبونيان: «إستصلح الأرمن الأراضي، التي كانت مستنقعات، وبنوا فيها بيوتاً وكنائس وإلى جانب كل كنيسة أو مطرانية بنوا مدرسة. لهذا نجد حالياً في مرعش مطرانيات ومدارس باسم المذاهب الأرمنية الثلاثة: الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن الإنجيليين. وكانت المنطقة تتبع بلديات الجوار لكن الأب بولس عريس، الذي كان يعرف اللغة العربية إلى جانب الأرمنية، أحب أن ينشئ بلدية مستقلة فكانت بلدية برج حمود وقد شغل أول بلدية أنشأها بين عامي 1952 و1960. بنى الطرقات والبنى التحتية وبعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان أصبحت برج حمود ثاني بلدية بعد بيروت. تطورت كثيراً وأنشئت السوق التجارية في أراكس. واسم أراكس مستمد من اسم نهر في أرمينيا. كل شوارعنا مستمدة من أسماء ضيع ومعالم أرمنية كي لا ننساها. مرعش، أضنة، سيس، أمانوس، تومارزا… وما حدث أنه بعد النزوح السوري في 2011 زادت الكثافة السكانية كثيراً في برج حمود. وارتفعت من 80 ألفاً إلى 180 ألفاً، مع العلم أن البنية التحتية غير قادرة على استيعاب كل العدد الجديد».
يُخبر عضو بلدية برج حمود كل ذلك وهو يبتسم كلما ذكر المشروع الذي استحدث في المنطقة ويقول: الشوارع الخمسة التي أهلتها UN-Habitat فريدة من نوعها في المنطقة. إنارة نظيفة على الطاقة الشمسية وبنى تحتية وأمان أكبر في شوارع مضاءة ليلاً. وتم الإهتمام خصوصاً بمزاج mood الناس. وهذا غاية في الأهمية. وما يلفتنا هي غيرة الشوارع الأخرى في المنطقة. الجميع يريدون أن يشملهم المشروع لهذا نتمنى أن يُعمم المشروع.