«لماذا لا يأتي وفدٌ سوريّ إلى لبنان لبحث العلاقات بين البلدين بدلاً من ذهاب وفد لبناني إلى هناك؟»، سؤالٌ طرحه النائب إيهاب مطر في سياق مقاربته للتطورات الداخلية والإقليمية، يتعلّق بالقواعد والأصول التي ينبغي أن تُبنى عليها العلاقات بين لبنان وسوريا على أساس الندّية والسيادة، في توقيتٍ يتلمّس فيه العالم العربي والإقليم مفاعيل الاتفاق السعودي- الإيراني وينتظر ترجمته وإسقاطاته على البلدين بشكل خاص. كما حمل السؤال ردّاً على «الأوامر» التي وجّهها الأمين العام لـ»حزب الله» إلى حكومة تصريف الأعمال بتشكيل وفد والذهاب إلى سوريا لتطبيع العلاقات مع النظام.
دأبت المنظومةُ الحاكمة التي يديرها محور الممانعة بشكل خاص على فرض نمطٍ دوني من العلاقة مع سوريا في الشكل والمضمون، يجعل لبنان الدولة والشعب في الموقع الأدنى، تكرّست في ما سُمي «المجلس اللبناني السوري الأعلى» (لزوم ما لا يلزم) واتفاقيات «الأخوّة والتنسيق» في انعكاسٍ لمسار الهيمنة السورية على بلدنا وتجاهل لحقيقة ما تركته جرائمُ وممارساتُ النظام السوري بحقّ اللبنانيين من مختلف المناطق والطوائف.
وما يجري الآن هو أنّ الفئة الحليفة لهذا النظام تريد استكمال استتباع لبنان لمحورها تحت مسمى العلاقة الطبيعية مع سوريا بالتهويل والإكراه… رغم أنّ السنوات الستّ العجاف لحكم تحالف «حزب الله»- ميشال عون كانت فرصة نموذجية لأخذ الدولة اللبنانية نحو التطبيع مع نظام الأسد، وهو ما لم يحصل على الأرجح لأنّ «الحزب» يريد توريط الجميع بهذا التطبيع لا أن يذهب مع حلفائه منفردين.
آخر فصول فرض التبعية على الدولة اللبنانية في هذا المسار جاء عندما أطلق الأمين العام لـ»حزب الله» تعليماته إلى الحكومة اللبنانية معتبراً أنّها «مُطالَبةٌ بأن تذهب وتقيم علاقات سياسية طبيعية مع سوريا، وهذا من مسؤولية حكومة تصريف الأعمال، وأنّ هذا من الواجبات والضروريات، ويفتح كثيراً من الأبواب لحل مشاكل ملحّة موجودة في لبنان… إذهبوا قبل أن يذهب الرئيس الأسد الى قمة الرياض أفضل لكم».
موقف النائب إيهاب خرق الصمت السياسي حيال هذا الخطاب المستفز وطرح سؤالاً جوهرياً ينبغي وضعه معياراً في مقاربة العلاقات اللبنانية السورية وهو: لماذا لا يأتي وفدٌ سوريّ إلى لبنان لبحث العلاقات بين البلدين بدلاً من ذهاب وفد لبناني إلى هناك؟»، مع إبداء الحرص على «علاقات ندّية بين البلدين».
هذا الموقف يلفت الانتباه إلى أنّ كبار المسؤولين العرب والأجانب يزورون لبنان ويلتقون المسؤولين فيه، باستثناء المسؤولين السوريين. ورغم إقامة علاقات دبلوماسية وفتح سفارتين في بيروت ودمشق، لم يُسجَّل لرئيسٍ سوريّ أن زار لبنان إلاّ عندما اصطحب الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز بشار الأسد إلى بيروت عام 2010 في محاولة من قيادة المملكة لإرساء الاستقرار ومنع المزيد من التفجير في العلاقات بين لبنان وسوريا إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
تنقسم الإشكالية هنا إلى اتجاهين:
ــ الأول: عقدة حكام سوريا من الكيان اللبناني، والتي عزّزتها تبعية قسم من اللبنانيين لهذا المحور على حساب الانتماء والمصالح الوطنية.
ــ والثاني: سياسي يرتبط بسياسة النظام السوري وانتمائه إلى المحور المعادي للعرب والمنحاز إلى إيران.
كيف يرضى الشركاءُ باستهداف شركائهم؟ مسألة أخرى لا تقلّ أهمية عمّا سبق، تتعلّق باستهتار من يفترض أنّهم شركاؤنا في الوطن بجرائم النظام السوري تجاه لبنان، والتي لم تقتصر على مرحلة الاحتلال السوري على خطورتها، ومنها جريمة مجزرة التبانة في العام 1986 والتي ذهب ضحيتها قرابة الألف من أبناء طرابلس وغيرها، فهي لم تتوقف مع الانسحاب السوري من لبنان، بل إنّها مستمرّة ومتواصلة، وأبرز تجلياتها جريمة تفجيري مسجدي السلام والتقوى ومتفجرات ميشال سماحة، وهي جرائم وثّقها القضاء ولولا ضبط سماحة بالجرم المشهود لحماه رعاتُه من المحاكمة، بينما لا تزال قضية المسجدين قابعة في الأدراج لدفن الحقيقة الساطعة.
كان يفترض بهاتين القضيتين أن تنعكسا على العلاقات الرسمية مع سوريا وأن يكون للحكومات والمواقع المعنية مواقف واضحة منها، لكنّ ذلك لم يحصل على الإطلاق، بل تصرّف محور الممانعة مع جريمتي تفجير المسجدين وسماحة باستهزاء وشماتة وتبرير وبإصرار على تجاوزها وكأنّ شيئاً لم يحصل، كما هي الحال مع سائر الجرائم والضحايا من اغتيال الشهيد رفيق الحريري إلى جريمة تفجير مرفأ بيروت، وامتدّ ذلك إلى حلفائهم السنّة في طرابلس الذين لم يمنعهم قتل أبناء مدينتهم من البقاء على علاقة وثيقة بالمرتكبين.
لا يترك «حزب الله» ومحوره محطة إلاّ وحوّلها إلى مناسبة يجدِّد فيها نكء الجراح وإثارة النعرات تحت مسمياته المقدسة الخاصة، فهو يكرّس انقلاب 7 أيار يوماً مجيداً ويفرض سراياه «مقاومين» في حارات المدن السنية، بينما يراد للآخرين طمس ذاكرتهم وتجريف وجدانهم حتى يتصحّر ويقبل التطبيع مع المنظومة المنفلتة عليهم.
تسوياتٌ كثيرة مرّت وعبرت وبقيت طرابلس بذاكرتها ووجدانها (الناس والهوية) رافضة أن تنكسر كما الأشرفية والطريق الجديدة وزحلة وصيدا… ليحضر قول الشاعر العربي زفر بن الحارث:
وقَدْ يَنْبُتُ المَرْعَى على دِمَنِ الثَّرَى وتَبْقَى حزَازاتُ النُّفُوس كما هِـيَ