الأسباب عديدة وراء إسراع الولايات المتحدة الأميركية، بشقي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، إلى إبلاغ العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز أن واشنطن عازمة على صيانة وتطوير العلاقة التاريخية بين البلدين في هذه المرحلة الدقيقة. جزء من الاندفاع إلى طمأنة القيادة الجديدة في الرياض – عبر وفد رفيع المستوى ضم الرئيس باراك أوباما وكبار المسؤولين في إدارته وإدارات سابقة، جمهورية وديموقراطية، تعود إلى القلق مما خلّفته مرحلة اللاإرتياح والتوتر في العلاقة الثنائية في أوائل سنوات إدارة أوباما وصولاً إلى امتعاض واضح للقيادة السعودية من الإدارة الأميركية. الرئيس أوباما استدرك في السنة الأخيرة وسعى إلى إصلاح العلاقة مع الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز الذي أبلغ من يعنيه الأمر من الأميركيين أن مصر تشكل قراراً استراتيجياً للمملكة العربية السعودية غير قابل للأخذ والعطاء. عدّل الرئيس الأميركي سياساته المثيرة للجدل إزاء مصر كي يبدد الانطباع بأنه دعم نهوض «الإخوان المسلمين» وتسلّم السلطة. وخطت مسيرة إصلاح العلاقة الأميركية – السعودية إلى الأمام عبر مواجهة «داعش» في تحالف دولي بتوافق على استراتيجية العراق باختلاف في الآراء على استراتيجية مواجهة «داعش» في سورية. اليمن بقي معلّقاً في شبه تفاهمات أميركية – سعودية وكذلك في شبه اختلافات. أما إيران، فإنها كانت وما زالت علامة استفهام في العلاقة الأميركية – السعودية تمتد أبعادها من اليمن إلى سورية إلى العراق وإلى لبنان. وهذا الأسبوع، فيما كان أوباما ووفده الرفيع يزور الرياض معزّياً بالملك عبدالله الذي تبنى الاعتدال والحوار والتفاهم والإصلاح شعاراً له، كانت القيادة الإيرانية المتمثلة في «الحرس الثوري» تتباهى بنفوذها الشاسع بمشاركتها العسكرية في دعم النظام في سورية سوية مع «حزب الله». كانت أيضاً تعدّ للانتقام من العملية الإسرائيلية العسكرية التي أسقطت قيادات مهمة إيرانية ومن «حزب الله» في الجولان، ليس في سورية وإنما بقرار فتح الجبهة اللبنانية. وبرز السؤال: هل السياسة التي يعتمدها الرئيس باراك أوباما نحو إيران تطمئنها لدرجة التمادي بثقة بأنها لن تُحاسَب – شأنها شأن إسرائيل كلما تمادت؟ أم أن هناك أطراً سياسية أميركية أبعد وأعمق نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية عرضها أوباما أمام القيادة السعودية الجديدة لطمأنتها نووياً – في حال تم الاتفاق في المفاوضات النووية أو فشل – وإقليمياً على رغم من امتداد أخطبوط «الحرس الثوري» من العراق إلى سورية إلى لبنان وكذلك إلى الجوار المباشر في اليمن؟
يختلف المحللون في تفسير العلاقة الأميركية – السعودية إزاء انخفاض أسعار النفط. البعض يعتبر الدفع السعودي لتخفيض أسعار النفط حجراً أصاب عصفورين: روسيا وإيران وفنزويلا من جهة، وآفاق النفط الأميركي المتمثل في ما يسمى بثورة النفط الصخري، التي ستجعل الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط والغاز عالمياً، والبعض الآخر يرى أن تخفيض أسعار النفط أتى باتفاق سعودي – أميركي لضرب الاقتصاد الروسي ولاحتواء فنزويلا ولتقييد أيادي إيران، نووياً وإقليمياً.
الأرجح أن النظرية الثانية هي الأصح. فلو كانت النظرية الأولى دقيقة وصحيحة، لما توجه وفد بمستوى الوفد الأميركي إلى الرياض للتعزية وللتعارف والطمأنة. فهذه مصالح غير قابلة للمجاملات. وكل المؤشرات تفيد بأن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية تتلاقيان – مع اختلاف الأولويات – على إبلاغ القيادة الروسية بامتعاض الدولتين من سياساتها إزاء أوكرانيا – وهذه أولوية أميركية – وإزاء سورية التي هي أولوية سعودية.
انخفاض أسعار النفط أذى في العمق الاقتصاد الروسي وأسفر عن توتر جدي في العلاقات الأميركية الروسية لدرجة أن الديبلوماسية الروسية تتهم الولايات المتحدة و «الغرب» بتجويع الروس. النتيجة الأخرى التي ترتبت على انخفاض أسعار النفط هي محاولات روسيا لعب دور على الصعيد السوري من خلال رعاية صقل معارضة سورية جديدة تتفاهم مع الحكومة السورية. فعلى رغم أن المواقف الروسية لم تتغير في صلبها، تحاول موسكو أن تبدو أكثر ليونة وجاهزية للعب أدوار أقل تصلباً في دعمها القاطع للنظام في دمشق.
إيرانياً، إن الأذى الذي ترتب على تخفيض أسعار النفط يضرب العمق الإيراني، لكن طهران تتعالى عن الاعتراف بمدى الضرر. وما مجازفات ومواجهات «الحرس الثوري» في الجولان وعبر «حزب الله» في لبنان مع إسرائيل سوى إحدى المحاولات لتحويل الأنظار عن الواقع الداخلي في إيران.
واضح أن الرئيس باراك أوباما يريد بكل قواه أن تتوصل المفاوضات النووية المعروفة بـ5+1 مع إيران إلى اختراق يدخله التاريخ يختتم به سيرته الرئاسية. هذه المفاوضات ليست ميسّرة حتى الآن.
واضح أيضاً أن باراك أوباما عازم على منع الكونغرس الجمهوري من فرض عقوبات إضافية على إيران في خضمّ المفاوضات. فالعقوبات المفروضة تقيّد الطموحات الإيرانية النووية والإقليمية، في رأيه، وأسعار النفط المخفضة تزيد الطين بلّة لـ «قوى الاعتدال» في رأي أوباما.
واقع الأمر أن قوى الاعتدال التي يقودها الرئيس حسن روحاني لم تتمكن حتى الآن من إثبات قدرتها على تولّي زمام الأمور أو استطاعتها إدارة البلاد نحو الاعتدال في حال تخفيف العقوبات. كل الدعم والزخم الذي تلقته قوى الاعتدال لم تمكنها من لجم قوى التطرف المتمثلة بـ «الحرس الثوري» ولا من التأثير جذرياً في توجهات مرشد الجمهورية آية الله خامنئي.
جميع السياسات الأميركية والأوروبية، وعلى رغم أن هدفها دعم قوى الاعتدال، لم تسفر سوى عن تقوية القوى المعارضة لتيار الاعتدال. وليس هناك أية ضمانات بأن رفع العقوبات سيعزز الاعتدال، بل العكس، إن المستفيد الأول هو «الحرس الثوري» الذي وضع طموحاته الإقليمية في طليعة أولوياته، والذي لن يسمح أبداً بتخلي إيران عن «حق» امتلاكها القدرات النووية. طموحات إيران الإقليمية لم تتعدّل وهي: العراق وسورية ولبنان واليمن. جميعها لم يشهد أي تعديل أو تغيير بقرار من طهران. فكل ما تغيّر أتى نتيجة الاضطرار وليس نتيجة قرار آتٍ من طهران.
طهران تعتبر نفسها فائزة في العراق وسورية ولبنان واليمن. إنما الرأي الآخر يعتبرها متورطة في الدول الأربع لأنها بعيدة عن الفوز بل هي أقرب إلى الخسارة الكبرى. فقدراتها المالية المحدودة – بسبب العقوبات وأسعار النفط – تكبّل طموحاتها وتجعلها مرشحة للتورط في مستنقعات تستنزفها.
قيادات «الحرس الثوري» ترفض قطعاً فكرة استنزافها، ولذلك لا تمانع في توسيع رقعة المواجهات والتصعيد فيها نوعياً. وهنا تماماً تكمن نقطة الخلاف الأساسي بين «الحرس الثوري» وبين القيادات الأخرى في إيران. ذلك أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تريد تصعيداً نوعياً لدرجة المواجهة مع إسرائيل أو لدرجة إنهاء المفاوضات النووية مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا. فهذا من وجهة نظرها، ببساطة، انتحار.
الانقسام الإيراني – الإيراني يُمتحَن الآن في لبنان وليس في الجولان. فإذا قررت القيادة الإيرانية على مستوى آية الله خامنئي أن مصلحة إيران تقضي عدم التصعيد لدرجة المواجهة بين إسرائيل و «حزب الله»، قد يتم احتواء تطورات اليومين الماضيين كي لا تتطور إلى ما يشابه أحداث 2006.
المشكلة أن إسرائيل بنيامين نتانياهو قد ترى أن لا خيار أمامها سوى الانتقام من العملية الانتقامية لـ «حزب الله»، وعندئذ قد تخرج الأمور من زمام السيطرة الإيرانية على «حزب الله».
حتى الآن، لعل هناك تفاهمات إيرانية – إسرائيلية على ضبط الأمور في إطار الانتقامات المحدودة لأن ضبطها يقع في المصلحة المتبادلة لجميع المعنيين. فحرب 2006 لم تنته بمنتصر، مهما زعم أحد الأطراف أنه انتصر. وحرب 2015 حاسمة. إيران ليست مستعدة للحسم، فلا المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل واردة، ولا صرف الورقة الثمينة المتمثلة بـ «حزب الله» آن أوانه.
الخطر يكمن في مزاجية وحسابات بنيامين نتانياهو الانتخابية. فقد يرتأي أن مصلحته تقتضي المجازفة في زمن ضعف خيارات إيران و «حزب الله». وقد يقرر أن عليه ضبط النفس لأن إسرائيل لم تتخذ قرار التخلص من الرئيس السوري بشار الأسد في خضم معركته مع «داعش» وأمثالها.
إدارة أوباما تعمل على الاحتواء لأنها بدورها لا تجد مصلحة لها في مواجهة شاملة لإسرائيل مع محور إيران/ «حزب الله»/ النظام في دمشق. وعليه، ربما يتم التفاهم على عمليات انتقامية «ضرورية» شرط أن تكون محدودة.
فالقصة الأكبر هي مع إيران وهي تدخل في إطار أوسع من الانتقام المباشر. وهذا يعيدنا إلى العلاقة الأميركية – الإيرانية ووقعها على العلاقة الأميركية – السعودية، والعكس بالعكس.
فالرسالة وراء مستوى وفد الولايات المتحدة الأميركية، بشقي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، إلى الرياض لها عنوان آخر هو طهران. والرسالة واضحة بعنوانها وتفاصيلها وهي أن الولايات المتحدة مهما كانت مصرة على نقلة نوعية في العلاقة مع إيران، لكن العلاقة مع السعودية تبقى نقطة الانطلاق للمصلحة الأميركية البعيدة المدى.