أيها الزعماء اللبنانيون، يا أيها القادة، أنا النسبيّة المسكينة التي تلهجون بها كلّ يوم، وتستغلّون وهجها وبريقها في كلّ لحظة، وتبشّرون شعوبكم بحسناتـها وأفضالها. سأخبركم عن نفسي، وأشرح لكم حسناتي وسيئاتي، وبعدها، إفعلوا ما تشاؤون.
أنا أيها السادة، إبنة الأحزاب والعلمنة والمواطنة، أنا أكثر عدالة وتمثيلاً من كل الأنظمة، خصوصاً بالمقارَنة مع النظام الأكثري المعتمَد في لبنان، والذي أسأتم إليه كثيراً باعتمادكم اللوائح والمحادل والبوسطات.
أنا لست سنّية ولا شيعية ولا درزية، كما لست مارونية ولا أرثوذكسية ولا أرمنية… بحثت وفتشت طويلاً عن أحزاب وطنية تمثّلني وتحفظ قيمتي وتتنافس على برامج ومبادئ وتطلّعات، لا على طوائف ومذاهب وحصص، فلم أجد حزباً واحداً يستوفي الشروط.
فالأحزاب العلمانية إندثرت أو تكاد، وحلّت محلّها أحزاب طائفية وعشائرية يديرها شيوخ قبائل لم يخفوا يوماً تبعياتهم وارتباطاتهم، ولأتباعٍ إستسلموا لغرائزهم المذهبية وجهلهم الأعمى، فاندفعوا كقطعان غنم يسوقها «كراز».
أيها السادة، إنّ ثقافة المجتمع اللبناني وتركيبته الطوائفية لا تزال مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالأشخاص والمذاهب التي ينتمون إليها في غياب الأحزاب العلمانية التي تضمّ خليطاً من كلّ الطوائف ولديها برامج وطنية وتنموية، والأحزاب في لبنان في معظمها لا تزال خاضعةً لمزاجية رؤسائها وتقلباتهم الطائفية وارتباطاتهم الإقليمية. وبطبيعة الحال تسقط كلّ مقوّمات المقارَنة بين مجتمع تحكمه المحاصصة والمذهبية، ومجتمع آخر إقتنع أفراده بالولاء للدولة أولاً وأخيراً وبالمواطنة الصافية والراقية.
لذلك، لا يمكن مقارَنة أو مقارَبة التركيبة الإجتماعية في البلدان التي تطبّق النسبية، مع التركيبة الإجتماعية في لبنان. فالعقد الإجتماعي الذي توافق عليه اللبنانيون في «الطائف» تحدّث عن التمثيل الصحيح والمناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ولم يتحدّث عن تمثيل الطوائف بحسب أعدادها.
فإذا كان المقصود بالتمثيل الصحيح أن يتمثّل المسيحيون بحجمهم الديموغرافي الحقيقي، أي بـ 33 أو 34 في المئة من المجلس النيابي، عندئذ فإنّ النسبية هي الوسيلة الوحيدة لتظهير واقعهم المزري بالشكل الصحيح، ويكون جميع السياسيين والمنظّرين الذين يلهجون بالنسبية على حق. أمّا أن يتكلّموا عن الـمناصفة والنسبية في آن واحد، فهذا إستخفافٌ بعقول الناس، وتحايل على الواقع.
إنّ النسبية لها شروطها وأجواءها في البلدان التي تأخذ بها، ولا تجوز مقارنتها بواقع المجتمع اللبناني المشرذَم والمقسّم إلى طوائف ومذاهب، حيث الولاء للطائفة أهمّ وأعظم من الولاء للوطن.
فالنظام النسبي هو إبن الدول المدنية العلمانية، والمجتمعات العريقة والمتقدّمة، والملائم لحياتها السياسية والإجتماعية والحزبية، ولا يمكن أن يصحّ في المجتمعات الطائفية والمذهبية التي يسعى بعضها إلى «تناتش» السلطة والنفوذ، والبعض الآخر إلى إستجداء المناصفة والشراكة، وفي بلد لا تتعدّى نسبة المسيحيين فيه ثلث عدد سكانه.
فالنظام النسبي يُعبّر تعبيراً صادقاً عن الوجود الديموغرافي للمسيحيين، بحيث لا يتمكّن المسيحيون بأصواتهم وقوتهم الذاتية من إيصال أكثر من 34 في المئة من النواب في الحدّ الأقصى، أي 42 نائباً، باعتبار أنّ وجودهم لا يتجاوز هذه النسبة.
فإذا كان «المشروع الأرثوذكسي» في رأي البعض، يجعل اللبنانيين أجساماً إنتخابية ينفصل بعضها عن بعض، ويجعل لبنان فيديرالية طوائف، فإنّ نظام النسبية، سوف يزيد الشرخ بين اللبنانيين ويؤدّي إلى مزيد من الإنقسامات، ويهمّش الصوت الـمسيحي ويضعفه، لأنه لن يتمكّن من إيصال مَن يمثله تمثيلاً صحيحاً، ويضعه تحت رحمة المزاجَين السنّي والشيعي، وهيمنتهما المطلقة فـي تشكيل اللوائح.
وها هو النائب وليد جنبلاط، وبعدما شعر بخطر «النسبية» على الوجود الدرزي، أطلق صرخته المدوّية: «كفى تنظيراً وتطبيلاً حول نسبية ملزمة آتية ولازمة وإلّا بطل التمثيل. لسنا قطيع غنم ليسلّم مصيـره وسط هذه الغابة من الذئاب. ميزة لبنان إحترام التنوّع وتأكيده فوق كل إعتبار».
إذا كانت «الدائرة الفردية» لا تُعجب البعض، و«الدائرة الصغرى» مع «الصوت الواحد لمرشح واحد» لا تعجب البعض الآخر، والجميع مغرَم بالنسبية من دون معرفة مضمونها وأبعادها، فقد طالبنا سابقاً كحلّ وسطي و«رأفة» بالتمثيل الصحيح لكلّ مكوّنات المجتمع أن تجري الإنتخابات على مرحلتين: المرحلة الأولى، تأهيل المرشح على مستوى الدائرة الفردية أو الصغرى، ثمّ الإنتقال بالذين تأهّلوا فقط إلى المرحلة الثانية، إن كان مع «القانون المختلط» أو مع «النسبية» الكاملة. فالتأهيل في المرحلة الأولى يبدّد بعض الهواجس، ويخفّف بعض الغبن، ويؤمّن قدراً مقبولاً من التمثيل الصحيح.
وها هو الرئيس نبيه بري، وبعدما أيقن أنّ «النسبية» وحدها لا تكفي لتؤمّن العدالة والتمثيل الصحيح، ولا يمكنها، مهما تحمل من صفات حسنة، من تحقيق المناصفة الحقيقية التي تكلّم عنها الدستور، وخصوصاً المادة 24 منه، فقد إقترح تأهيل الناخبين على مرحلتين، واستعان بـ«المشروع الأرثوذكسي» الذي رجمه كثيرون من دون وجه حق، من أجل التأهيل على مستوى القضاء، قبل الإنتقال إلى «النسبية» على مستوى المحافظة.
وهنا، لا بدّ لنا من التنويه بما طرَحه الرئيس بري لأنه شعر بالغبن الذي سيلحق بجميع المرشحين الذين يمثلون حقيقةً شعوبهم ولكنهم مرفوضون لسبب أو آخر من بعض شيوخ القبائل التي تحتكر تأليف اللوائح. إنه ضوء صغير فـي عتمة نفق لا ينتهي.
نعم أيها السادة، إنّ نظام التمثيل النسبي يُعتبر أكثرَ عدالة من سواه من الأنظمة، خصوصاً بالمقارنة مع نظام الأكثرية المعتمَد حالياً في لبنان، ولكنه في واقعنا الديموغرافي والطائفي وفي غياب الأحزاب الوطنية اللاطائفية، ومن دون مراعاة التمثيل الصحيح والمناصفة الحقيقية، كثوب صُمِّم لغير وطن، وهو أشدّ البعد من تحقيق العدالة والمساواة.