اثنتا عشرة سنة على ارتكاب أسوأ نماذج النوع البشري جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بتفجير موكبه وقتل رفاقه معه في وضح النهار، في وسط العاصمة بيروت، وفي إطار الحرب السرّية على الحراك الاستقلاليّ اللبنانيّ، التي انطلقت بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة، ثم الجريمة الكبرى في 14 شباط، وسلسلة الاغتيالات والتفجيرات التي تلت.
يصعب التمييز في هذه الاثنتي عشرة سنة التي مرّت بين «حاضرٍ» و«ماضٍ». ما زالت الاغتيالات مقيّدة في الزمن الراهن. رغم أنّ عدداً من المتورّطين في الاغتيالات من المرجّح أن يكون قضى نحبه في السنوات الماضية هنا أو هناك، لسبب متصل بإخفاء معالم الجريمة، أو لأسباب أخرى، ورغم أنّ مسلسل الاغتيالات توقف بعد اغتيال الوزير محمد شطح، إذا ما اكتفينا بالنظر إليه بشكل تسجيلي بحت.
الاغتيالات ما زالت مقيّدة في الزمن الراهن، لسبب أساسي، وهو أنّ من اعتمدها وسيلة بشكل متسلسل لثماني سنوات، لم يلجأ إلى هذه الوسيلة «ثأريّاً» أو «انفعالياً» أو «مجّانياً»، أو لمجرّد إظهار بطشه أو صلفه، بل اعتبرها «ضرورة وجودية» له ولمشروعه.
الاغتيالات ما زالت مقيّدة في الزمن الراهن كذلك الأمر لأنّه المسلسل الإرهابي المروع الذي دام سنوات عدّة، وقتلت فيه شخصيات لبنانية تشكّل إلى أوسع حدّ الذاكرة الوطنية اللبنانية الحرّة المعاصرة، ومن دون التركيز على هذا المسلسل، وفحصه، ومعاودة النظر اليه، لا يمكن التقدّم جدياً على طريق فهم ماهية الأعمال الإرهابية، وماهية العقل الإرهابي. اذا كان العالم اليوم مهتماً بفهم الظاهرة الإرهابية، فإن مدخلاً أساسياً لفهمها ومكافحتها يكون بفهم ما حصل في لبنان خلال الأعوام 2004 – 2013، وهنا الأهمية التاريخية للمحكمة الدولية الخاصة للبنان، رغم كل الشكوى الضميرية المواطنية، السابقة على أي مبحث قانوني، من إطالة مدّتها. العدالة من أجل لبنان هي أيضاً الحقيقة لأجل الإنسانية ككل: فهم العقل الإرهابي يبدأ من فهم هذا المسلسل الإرهابي الدموي، الذي يختلف كل الإختلاف عن مقولة «الإرهاب الأعمى». فهنا الإرهاب قصديّ، وخبيث، ويراكم تجربة متتابعة، ويحاول ضرب العقول التي تتصدّى له، وفي طليعتها العقل الحقوقي – القانوني، والتسلل إلى داخلها، أو نخرها. إذاً، حتى لو أنّ استعادة أسماء الذين نكّل بهم العقل الإرهابي في تلك السنوات، بحاجة إلى ما هو أكثر حيوية وتسييساً، من مجرّد الإستحضار المناسباتي، الوفائي، الإستنهاضي للهمم، فإنّ هذه الإستعادة بحدّ ذاتها تعكس راهنية القضية: رفيق الحريري وسمير قصير وجورج حاوي وكل الشهداء حتى وسام الحسن ومحمد شطح قضوا نتيجة لنوع «غير أعمى» من الإرهاب، وهذا النوع غير الأعمى من الإرهاب، لا يقل خطورة، بل يزيد، عن أنواعه المصنفة عدمية أو عمياء، بل أنّ العلاقة بينهما تتخذ أشكالا عديدة، ومحطاتها كثيرة.
قضية الشهداء، شهداء الإستقلال الثاني، ليست «ماضياً» إذاً، إنّها قائمة في تعريف الحاضر، من خلال مكانتها الأساسية في تعريف الظاهرة الإرهابية، والجريمة ضد الإنسانية. وليس ثانوياً أبداً أن يكون هذا الشر الذي بدأ في لبنان مسلسل اغتيالات لشخصيات قد تحوّل في سوريا إلى مسلسل تطهير دموي، وقصف بالكيماوي، وببراميل المتفجرات، وإبادة منهجية للمعتقلين، وإحتراف للمزاوجة بين «الإرهاب غير الأعمى» و«الإرهاب الأعمى»، في وحدة العقل الإرهابي، رغم اختلاف تموقعاته وأركانه.
شهداؤنا راهننا. لا يمكن قول الشيء نفسه عن الحركة النضالية التي خرجت تواجه المعادلة الإرهابية منذ مساء 14 شباط 2005، الحركة التي عرفناها بأسماء «انتفاضة الإستقلال»، «ثورة الأرز»، «قوى 14 آذار». شهداؤنا راهننا، أما كل هذه التركة النضالية، بما لها وما عليها، بالمساحة التي جرى تقييمها منها وبالمساحة التي تنتظر التقييم، فقد دخلت في قيد «الماضي». هنا لا ينفع الأسف أو التبرير، لم يعد يجدي توزيع المسؤوليات، ولكل ترتيبه لهذه المسؤوليات في ضوء موقعه ومصلحته وما يراه.
في نهاية الأمر لا يمكن لعمل جبهوي أن يستمر الى ما لا نهاية. لا يمكن لعمل جبهوي أن يستمر أصلا من دون تمييز واضح بين المتفق عليه داخله وبين المختلف عليه. كل ما يمكن قوله في هذه العجالة أنّ هذا العمل الجبهوي النضالي، الذي حمل وهج 14 آذار، وحمل راية شهداء ثورة الأرز، لم يحسن مقاربة المسألة الطائفية من البداية: فإما التوهّم أنها اختفت، عندما احتشدت الجماهير الغفيرة في الساحات في يوم الوفاء للرئيس الحريري، ومطالبة بالإستقلال والحرية والحقيقة وخروج جيش الوصاية، وإما التشاؤم بأنّها عادت بقوة مضاعفة لا تقاوم ولا ترد، لتنهي كل تداخل وتفاعل وتواصل، وكل طرح سياسي معني بجديّة بكيفية إعادة تشغيل مؤسسات الدولة اللبنانية ومرافقها، وكيفية إعادة ضخ موارد الشرعية إلى النظام السياسي اللبناني، وكيفية تأمين الحد الأدنى من الإحتكام الى الدستور والقوانين.
بين الاستخفاف بالطائفية، أو بين التماهي المسرف معها بشكل يحجرها، فيما هي تبقى حيوية، ومتبدّلة، ضاعت «14 آذار» بالشكل الذي عرفناها في سنوات الاستهداف الارهابي لشخصياتها. وبين عظمة هذه التركة، وبين ضياع الوجود السياسي للحركة الاستقلالية الجامعة، ما زالت الراهنية للشهداء قائمة، وربما أكثر من ذي قبل: بشرط ان لا تفهم هذه الراهنية كإحياء مناسباتي، وإنما، ككشف سياسي منهجي لماهية هذا العقل الارهابي الذي قتل رفيق الحريري وشهداء الأرز الآخرين.