IMLebanon

الدين للفرد السياسة للمجتمع

التناقض أو الإشكالية هي بين الايمان (الفردي) والطقوس (والطقوس تكون في الغالب جماعية). الايمان مشاعر داخلية أما الطقوس فهي حركات خارجية. الايمان يهدف إلى تجربة ذاتية، تجد فيها الروح، أو لا تجد، ضالتها. الطقوس تكاد تكون حركات رياضية فيزيائية لدى الجموع، متى أداها المؤمن فهو في حلّ من كل ما يخشاه حول الايمان. الطقوس ضمانة في وجه كل تجربة ذاتية روحية. عندما تكون الطقوس ذات أولوية فهي تؤدي مهمتها في ان تجعل النفوس خواء. هي ما يخلي الروح من الايمان. أنت متى قمت بالطقوس، وهي واجب، تضمن انك قمت بواجبك الديني، وان ذلك اصبح مسجلاً في السجل الأعلى، والعلي القدير لن ينسى لك هذا. ربما صارت الطقوس وسائل ناجعة لتبرير الاحتيال وغير ذلك من الأفعال التي لا يرضى بها أصحاب الدين في ظروف عادية. وربما كانت العقوبة الاقسى بحق بعض أهل الدين هي حرمانهم من تأدية الطقوس في سبيل ان ينصرفوا للعمل الروحي الصرف، ذلك لأنهم غير مهيئين للتجربة الروحية.

لكن، مهما كان الايمان، زائفا أو صادقاً، فإنه يكاد يفقد روحانيته بالطقوس. لا يمكن ان يكون الايمان إلا فرديا. ولا يمكن ان تكون الطقوس إلا جماعية. إذا كان الايمان داخلياً، داخل الذات، فإن الطقوس خارجية، خارج الذات. تشكل الطقوس خطراً على الايمان وهي في بعض أشكالها نفي للروح.. تستكين الروح إلى الطقوس، تتقاعس عن البحث عن وسائل اتصال مع الله، مع المصير، مع الإنسانية كما يجب ان تكون، تكتفي بما هو الأمر عليه، تكتفي بالظروف الاجتماعية والسياسية، تهدأ الروح، تطمئن إلى ان ما يجري على الأرض مقدر، تقدره السماء، هو واجب الوجود، ينزوي الايمان بالروح، تنعزل الروح عن التواصل مع الجماعة. هي في الجماعة وخارجها. تتفتت الجماعة، تخرج عن كونها مؤلفة من أرواح تائهة للخروج للتساؤل، للتشاكل، للنضال، للتناقض، لرؤية ان هناك مشكلة، أو مشاكل في الواقع، وان خلق الله ليس على ما يرام، وان خلقاً أفضل يمكن ان يكون.

تنعزل الروح في ما هو كائن. تعتبر ان ما هو كائن قدر، ولا تراه من صنع البشر والتراتبية الطبقية. ترى الطبقات بعين السيطرة لا للتعاون، «وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا». تعارفوا على طريقة تراتبوا بعضكم فوق بعض. البعض الأقل يستوفي من الكثرة الغالبة. تستسلم الروح لواقع بشري وهي تظن الأمر قدراً سماوياً. تطور يكتمل مع تطور الرأسمالية. يصير الواقع استسلاماً لقدر رأسمالي تفرض الطبقة الحاكمة ان يكون إلهياً. ننتقل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. يتحول هذا الواقع إلى رغبة. ننتقل من كوننا مواطنين أحراراً في ظل الرأسمالية الليبرالية إلى رغبتنا في ان نصير عبيداً ورعايا في ظل الرأسمالية النيوليبرالية. تموت روح النضال. تكاد البيئة الطبيعية (الجغرافية) تنهار بفعل الاحتباس الحراري، بينما الناس، فقراؤهم واغنياؤهم، مسرورون بما لديهم، لا يأبهون لخطر البيئة المتهالكة الداهم. يرقصون على أنغام موسيقى الموت. يدفنون أحياء. سريعاً ما سيصبحون أمواتاً.

تعودنا ان نرى الروح عبر التاريخ لا تهدأ، مثل موج البحر، موجة من التساؤل والمعرفة تتبعها أخرى. تبلى المعرفة القديمة. تنشأ معرفة جديدة. يرتقي الجنس البشري. الروح تقود التقدم البشري. يتماشى الإيمان مع الروح. يجرب دائماً ان يلحق بها. لكن، الايمان استسلم أخيراً للطقوس. لم يعد منه شيء إلا ما يرافق حركات الطقوس الرياضية الخارجية اشبه بما في كتب الحيل الكثيرة في تاريخ الأديان. تحتال الطقوس على الايمان، تدجنه. تفقد الروح قاعدتها، تفقد زخمها. تعجز عن السؤال. تتقاعد. ما عادت قادرة على تفسير هزائمنا. العزم الذي يدفع الناس للخروج من الهزيمة فقدناه مع استسلام الروح. صرنا بلا روح.

مجتمع بلا روح، دجنته الطقوس. وهذه عزلت الايمان الذي لم يعد ينفعه صدقه، تصير الطقوس احتيالاً على الدين. فقد الدين أولوياته. العودة إلى الوراء غير ممكنة. أولويات الدين يجب ان تتطور إلى الفردية. لا روح الا لدى الفرد. سيلاقي الافراد مصيرهم أفراداً يحملون معهم اثقالهم. مواقع المجتمع والدين الطقوسي تثقل الفرد، تعيقه، تمنعه من التفتح.

الطقوس قاعدة للدين السياسي. كادت تقلب المعادلة في 2011. الثورة المضادة ذات انياب عميقة. لكنها لا تدرك ان المواطن العربي يولد من التساؤل والتشكيك والظن والكفر والايمان تحت عبء الظروف. هل يولد هذا المواطن حقاً. يولد المواطن من النظر إلى نفسه، داخل ذاته، روحه في مكان آخر غير الحروب الاهلية التي تخوضها الثورة المضادة. سيكتشف أصحاب الأمر والنهي ان الغول الروحي الذي أهملوه، بالأحرى حاولوا القضاء عليه، سوف يظهر ولو بتطور بطيء، وسوف يقضي على أشلاء أنظمة واشلاء مجتمع واشلاء افراد مثقفين ورجال دين لم يعد لهم لزوم.

يولد المواطن العربي من دون دولة. وكيف يكون له ذلك والمنطقة مسرح لحرب عالمية؟ يولد المواطن العربي صاحب الروح المتسائلة من هذه المأساة بعد ان يكتشف، وقد بدأ يكتشف، ان العلم الذي لديه، العلم الذي انتشر بواسطة الدين المفوّت، هذا العلم لم يعد يفي الموضوع حقه. يولد المواطن العربي بالانخراط في هذا العالم، بالعيش في هذا العالم بعد ان يحوله من عدو إلى مجال للفعل. ليس العالم عدو هذا المواطن. مجتمعه وطقوسه هما عدوّاه، الأعداء هم أعداء الروح.

تحطمت التقاليد الدينية التي كان يرتكز إليها هذا المجتمع، يتذرر المجتمع. في الوقت نفسه تخوض المنظومة السياسية الحاكمة حرباً في ما بينها. لم يعد مفيداً أو ملائما الانضواء تحت هذه الراية أو تلك. يظهر الفرد المواطن وكأنه هو الوحيد الذي يمكن ان يبقى. فهل يبقى بوعي مختلف؟ وهل تكون الأولوية في الايمان للفرد لا المجتمع، وهل يصير المجتمع مجالاً للسياسة مهما كان الانتماء الديني للفرد؟