Site icon IMLebanon

قادة الدين والدنيا…

 

رغم بعض الخروقات يقفون ضد تطبيق العلمنة

 

 

عند كل منعطفٍ سياسيٍ مستجد، تتصاعدُ الدعوات للإنتقال إلى دولة علمانية، لكنها تصطدم بالشكل الذي يُريده المطالبون بها. فالتباين، الذي لا ينكر وجوب علمنة الدولة ككيانٍ مؤسساتي يكرس الممارسة المدنية للحكم، ويجعل من الدولة حامياً نهائياً للمكونات وحاضناً لها، يتباين في الشكل، بين نسفِ المنظومة الطائفية كأساسٍ للحكم وللممارسة كما في الدول الشيوعية، وبين انسجامها مع الدين، كما في تركيا، أو حيادها تجاه الدين، كما في الدول الأوروبية التي تكفل حرية المعتقد، واحترام الأديان والقوميات والإثنيات، وفصلها عن منظومة الحكم بالكامل.

يرى المتطلّعون لعلمانية تتعاطى بحيادٍ مع الأديان، أن هذه العلمانية هي عنصرٌ أساسيٌ من عناصر إقامة مجتمع لبناني تسوده الوحدة والمساواة والعدالة والحرية والسلام والديموقراطية، وبأنها الطريق الأصلح لنشوء وطنٍ يملكُ قاعدة قانونية واحدة موحدة إستناداً إلى المساواة والحرية وشرعة حقوق الإنسان.

 

في 17 شباط الماضي أعلنت وزيرة الداخلية ريا الحسن إنها ” تفضّل، شخصياً، أن يكون هناك إطار للزواج المدني”، مضيفة أنها تسعى إلى “فتح حوار جدّي وعميق حول هذه المسألة مع كل المرجعيات الدينية وغيرها، وبدعمٍ من رئيس الحكومة سعد الحريري، حتى يصبح هناك اعتراف بالزواج المدني”، وبذلك أعادت الى الواجهة مطلباً تاريخياً متعلقاً بهذا الموضوع. فالمبادرات التي سعت الى إقرارِ قانون مدني للأحوال الشخصية تتالت منذ العام 1957 عندما إقترح ريمون إده هذا الطرح لأول مرة في مجلس النواب كذهابٍ مبكرٍ إلى علمنة النظام في لبنان، وبعد 41 عاماً فاجأ الرئيس الراحل الياس الهراوي اللبنانيين بإثارة موضوع القانون المدني الإختياري ( أعدّه الوزير الراحل شوقي فاخوري)، وعرضه على مجلس الوزراء في العام 1998 ونال تأييد 20 وزيراً، لكنّه لم يُحل الى مجلس النواب بضغط من الرئيس ‏الراحل الشهيد رفيق الحريري، الذي رفض آنذاك التوقيع على القرار واللافت أن وزير العدل بهيج طبارة، المتزوج مدنياً صوّت ضد المشروع كما قامت قيامة رجال الدين بخاصة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني مهدداً بقطع يد من يوقّع عليه ليعود قبل سنوات ليعلن رفضه للزواج المدني في لبنان، معتبراً كل من يؤيد هذا القانون هو “مرتد خارج عن الإسلام”.

 

تصريحُ الحسن، حرّك المياه الراكدة، وأعاد النقاش حول هذه المسألة إلى الواجهة، على كلّ المستويات؛ شعبياً، سياسياً، ودينياً، وفي حين يرى البعض أنّها خطوة تحسب للوزيرة، يفيدُ البعض الآخر بصعوبة تحقيق هذا المشروع بفعل الإنقسام الحادّ بين فئة من اللبنانيين تعتبر أنّ إقرارَ الزواج المدني يندرجُ في إطار الحريات التي يكفلها الدستور، ويشكل اللبنة الاولى في بناء الدولة المدنية، في حين تتوجّسُ فئة أخرى، إستناداً الى آراء مرجعياتها الدينية، من “خطره” على الدين والأسرة والأخلاق.

 

مصاعب دينية وسياسية

 

ويشكّك كثيرون في إمكانية تحقيق تقدّمٍ على مستوى إقرار قانون للزواج المدني في لبنان، حيثُ يرتبط السياسي بالديني ترابطاً لا فكاك منه، إذ تكفي مراقبة ردود فعل السلطات الدينية، مسلمةً أو مسيحية، لإدراكِ المصاعب التي تعترض إقرار هذا القانون، ولعلّ أبرزها المواقف المعارضة التي صدرت من بكركي، ودار الفتوى، والمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، ومشيخة عقل الطائفة الدرزية، ما اضطرّ رئيس الحكومة سعد الحريري إلى التراجع وكذلك الوزيرة الحسن، وتراجعَ النقاش بالملف وأُعيد إلى الادراج.

 

وعلى سبيل المثال أكدت دار الفتوى رفضَها المُطلق للمشروع لأنّه “يخالف أحكام الشريعة السمحاء، جملةً وتفصيلاً من ألفه إلى يائه”. وكان مفتي الجمهورية السابق محمد قباني أصدرَ فتوى عام 2003 تعتبرُ “أنّ كل مسؤولٍ يواكب تشريع الزواج المدني هو خارج عن الإسلام، لا يُدفن ولا يُغسّل ولا يُكفّن ولا يصلّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين”. ولم يجد الشيخ علي بحسون من المجلس الشيعي الأعلى حرجاً في إعتبارهِ أن تشريعَ الزواج المدني هو “استباحة الزنى بطريقة مقوننة”.

 

وبالنسبة للقيادات السياسية فلها مواقفها أيضاً، فرئيس مجلس النواب نبيه بري أكّد أمام وفدٍ من نقابة الصحافة في 20 شباط الماضي أنّ الزواج المدني الإختياري “غير مطروح ولا يتحمّله أحد”، (علماً أن وزراءه صوّتوا إلى جانب مشروع الفاخوري) فيما أيّد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الفكرة “نعم إنني من المناصرين للزواج المدني الاختياري، ولقانون أحوال شخصية مدني، وكفى إستخدام الدين لتفرقة المواطنين” لكن شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن عارضَ المشروع بقوة، شارحاً موقفه في بيان.

 

شربل العراب والمشنوق الممانع

 

 

 

ويبقى الاختراق الهام الذي تحقق في هذا المجال والذي سُجل في العام 2011 عندما أصدر وزير الداخلية آنذاك زياد بارود تعميماً قضي بشطب المذهب في السجل وفقاً لما ورد في الرأي الصادر عن هيئة التشريع والاستشارات رقم 2762007 واستكمالاً له، والذي يؤكد على حقِ كل مواطن بعدم التصريح عن القيد الطائفي في سجلات الأحوال الشخصية أو شطب هذا القيد.

 

هذا التعميم هو الذي أتاح في العام 2013 تنظيم وتسجيل عقود زواج مدنية لأول مرّة في لبنان. “كانت المرة الأولى التي يتمّ فيها تطبيق الدستور اللبناني في ما يتعلّق بحقوق الأفراد من دونِ المسّ بحقوق الطوائف”، بحسب جوزيف بشارة، الكاتب العدل الذي عقد أولى الزيجات المدنية في لبنان.

 

ويُسجّل للوزير مروان شربل إحداثه فجوة فعلية في النظام اللبناني، السياسي والاجتماعي والروحي، من خلال توقيعه 13 وثيقة زواجٍ مدني. وهو أصبح بذلك أول وزير لبناني يطبّق القانون ويُعطي اللبنانيين الحق في الزواج المدني، واصفاً في تعليق له في 20 شباط الماضي طرح الحسن بـ “خطوة شجاعة يجب ملاقاتها ودعمها”، بخاصة أن الدولة اللبنانية تسجّل عقود “الزواج المدني التي تجرى بين مواطنين لبنانيين يتزوجون بالخارج، وهناك أكثر من 3000 عقد زواج مسجل في المحاكم اللبنانية”، فلماذا الاعتراض على إقرارِ قانونٍ يسمح بزواج مدني إختياري في لبنان، بدلَ أن يتكبّد الناس “مشقة السفر وتكاليفَ هذا الزواج في الخارج، طالما أنّ الدولة تعود وتعترف به؟”.

 

وبخلاف شربل، حاذر الوزير نهاد المشنوق الإقتراب من هذه القضية، بل أنّه أبدى معارضته لإقرار الزواج المدني وعرقل تسجيل عقود زواج أقيمت في الخارج، ويحفظ كُثر من اللبنانيين عبارته الشهيرة “قبرص ليست بعيدة” في معرض تحفيزه من يرغب في عقد زواج مدني، على السفر إلى الخارج.

 

أول زواج مدني وفق قرار من أيام الانتداب

 

كان الثنائي نضال درويش وخلود سكرية، نجحا بالعثور على منْفذ قانوني مكّنهما من إبرام عقد زواجهما المدني في لبنان مستفيدين من القرار 60 ل.ر. (وهو ترقيم للقرارات التي كان يتخذها المفوض السامي الفرنسي)، الذي أصدرهُ المفوض السامي كونت دو مارتيل عام 1936، والذي لا يزال ساري المفعول. وينصُ على أن من لا ينتمي إلى طائفة ما، يخضع في أحواله الشخصية للقانون المدني.

 

 

 

مسيرة الدولة الحاضنة والرعائية إنطلقت

 

 

وفي هذا السياق تقولُ أخصائية علم النفس الاجتماعي الدكتورة رجاء مكي: “لقد رأينا إلى أين وصلنا بالبلد عندما نكون كلنا طائفيين، واليوم نُشاهد إرتفاع الاصوات المنادية بفصل الدين عن الدولة، كي يشعرَ المواطن بالراحة بعد كل هذه الأزمات، لكن ليس من السهلِ أن تتقهقر الطائفة في لبنان، لأن هذا يحتاج الى وقت”، لافتةً إلى أنه وبوجود الطائفة هناك صراع على السلطة وعلى البقاء وعلى العيش، وعلى الرغمِ من كل المحاولاتِ الفاشلة حتى الآن، فإن مسيرة هذا التحول بدأت.

 

وتستدرك بأنّه إذا لم تكن هناك قوانين معممة نالت موافقة الجميع، وترغمهم على قيامِ الدولة المدنية قانونياً ودستورياً، فإنّه لا يُمكننا الإعتماد على المحاولات الفردية بإنجاح قيام الدولة المدنية، بمعنى أنّ العبور يجب أن يكون دستورياً وليس العكس، نظراً للأبعاد التي تجذّرت في عمق الوعي الشعبي وفي عمق اللاوعي الجمعي، بدون قيام قوانين تُحدد معايير ونظم الدولة المدنية.

 

وتُتابع مكي أن الكلَّ يتكلم عن إلغاء الطائفية السياسية، وهنا يجب الفصل بين حرية المعتقد والدين عن السير بالدولة المدنية، ولا تزال الطائفة حتى اليوم هي الأمان وهي الإنتماء والهوية، في وقت جعلت العولمة من الإنسان في حالة إغتراب مع ذاته، ففي ظلها وظل توسعِ شبكات الاتصال ومنصات التواصل الاجتماعي لا يشعر الانسان بالأمان ولا بالحماية، فهو يتسلى غالباً، ونرجسيته أصبحت قوية.

 

وبرأيها أن الميديا اليوم قتلت الأب وبقي الأب الرمزي من خلال الطائفة، فالأسرة تبدلت أدوارها وحتى الأب تبدلت وظائفه وأدواره، إلا أن الفكرَ لا يزال يُنتج نفسه في الاطار التقليدي، لذلك فالطائفة تؤمن للمواطن كل هذه الاستمرارية والبدائل، في الزمن الذي ذابت فيه التناهيات مع الأب الاصلي. وإذ ترى أن وسائل التواصل جرّدت الاب من سلطته الرمزية فذهبت الى الطائفة، تسأل هل لدى الناس الجرأة ؟ لتجيب: “اللبناني لم يتمكن حتى اليوم من فك أسرهِ مع الإنتماء الطائفي، نتيجةَ الخلافات والصراعات والخوف من الإبادة من محيطه ومجتمعه، فيما هو موجود في مكانٍ معترفٍ به وهذا الإعتراف يؤمن له السيرورة والأمان والطمأنينة”.

 

وتستخلص مكي أن كلَّ إعتقادٍ أو توجهٍ بطبيعة الحال يهيمن، فإذا استبدلنا الرأسمالية بالشيوعية نكون استبدلنا هيمنة بأخرى، ولكن بمنطق العلمنة أعتقد أن هناك فرصاً متاحة أمام الجميع للظهور وللوصول واستبدال الخوف “من خسارة الإحاطة والامان والحماية” بالدولة الحاضنة والرعائية.

 

إلغاء الطائفية السياسية بات ملحّاً

 

 

بدورها توضح الباحثة والناشطة السياسية زينة الحلو أنّ الدولة المدنية (لا دينية ولا طائفية) تُعد المدخل الاساسي لجزء كبير من المشاكل التي يعاني منها لبنان تاريخياً، وإلغاء الطائفية السياسية ليس بالضرورة أن يلغي الفساد، لكنّه بات ضرورة ملحة حالياً، معتبرةً أنه كفيل بأن ينزع المكانة التي يتمتع بها زعماء الطوائف سياسياً ومجتمعياً، لاعتبار أن التمثيل -الذي يدعيه هؤلاء مناطقياً- مبنيٌ بجزءٍ كبيرٍ منه على الانتماء الطائفي.

 

وتضيف بأن الدولة المدنية تعني تحرير الإنسان من انتمائه الطائفي في السياسة، لكنّ الغاء النظام الطائفي يحتمل الكثير من التأويل، وهذا ما إعتمدته الطبقة السياسية تاريخياً من خلال خطاباتها، مذكرةً أننا لم نشهد يوماً وضع خطة عمل للإنتقالِ من الحالة الطائفية إلى الحالة غير الطائفية، إذ أنهم طيلة الوقت كانوا يكرسون منطق ومبدأ توزيع الموارد على أساس طائفيٍ بحت وأحياناً كثيرة طائفي- مناطقي، وهذا ما زاد من منسوب الطائفية، بعيداً عن إعادة توزيع الثروات بالعدل وان يكون مبنياً على الحاجة والحق.

 

هذا الواقع يدفع بالحلو إلى التأكيد على أنه من الافضل الكلام عن دولة مدنية وليس عن دولة علمانية، حيث بالإمكانِ قيام دولة علمانية لكنّها عسكرية، والمحطة الابرز لطرح الزواج المدني كان في العام 1998 والكل يعرف ماذا حصل آنذاك. وتكشف أنّه ليست هناك من معطيات تُشير الى أنّ العلمانيين في لبنان مهمشون، أو هم القوى الأضعف والأقل تأثيراً ونفوذاً، مشددةً على أنّ المشكلة اليوم ليست بالأفراد بل مع المنظومة ومع آليات ممارسة الحكم، والأساس هو خروج المجموعة من القيد الطائفي وليس الأفراد.

 

وبنظرة تحليلية تردف قائلةً “العلمانية ليست قيمة مطلقة، بل هي نظرة لعلاقة الفرد بالدولة، لا تمر بالانتماء الى طائفة “، لافتةً إلى أنّ التغيير مرتبط بمن هم العلمانيون في حالِ وصولهم إلى السلطة وبإستعدادهم للعمل، وبنزاهتهم، مؤكدةً أن التغيير المحتمل حصولهُ ليس بالتغيير المطلق، وعلينا الإنتباه على إطلاق الاحكام القيمية، فربما يكون بعضهم علماني ويرغب بالإرتماء في أحضان السوري وآخر بأحضان الاسرائيلي، وثالث علماني ولكنه فاسد، وهكذا…