تشتد الضغوط من جانب السلطات السياسية على المؤسسات الدينية للقيام بشيء ضد التطرف المؤدي إلى القتل والإرهاب. الملك عبد الله بن عبد العزيز طالب المؤسسة الدينية بالخروج من الغفلة والتكاسل. والأميركيون والأوروبيون عادوا للأطروحة التي انتشرت بعد واقعة سبتمبر (أيلول) 2001 والقائلة بأن المتطرفين خطفوا الدين، وأن على أهل الاعتدال أن يستعيدوا الدين من خاطفيه. وجاء وزير الخارجية الأميركي الحالي ليقول من القاهرة إن المؤسسة الدينية المصرية (الأزهر) تقع في طليعة الاعتدال، ويكون عليها أن تتحرك. وفي ذكرى المولد النبوي الشريف قال الرئيس عبد الفتاح السيسي موجها كلامه إلى شيخ الأزهر الحاضر بالاحتفال، وإلى وزير الأوقاف والمفتي إن عليهم أن يضعوا برنامجا لخطاب جديد يحول دون استغلال الدين، ويجلو وجه الإسلام الوضاء. وبالفعل فإن سائر الجهات الدينية والثقافية راحت تنظم ندوات ومؤتمرات لمواجهة التطرف، وفي المغرب والسعودية والأردن ومصر وأبوظبي. وقد اشتهر من بين تلك التحشدات المؤتمر الكبير الذي أقامه الأزهر بين 2 و4 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2014، وكانت له ميزتان في الحضور والبرنامج. ففي الحضور ظهر فيه مسلمون ومسيحيون. وفي المضامين كان هناك محور في تحرير المفاهيم وتصحيحها. وقد بدا ذلك واضحا في خطاب شيخ الأزهر بالمؤتمر، وفي البيان الختامي الصادر عنه. ففي الموضعين ندد شيخ الأزهر بالمتطرفين الذين يريدون تدمير العيش المشترك والعريق بين المسيحيين والمسلمين، كما أنه نقد تحويلات المفاهيم مثل الخلافة والحاكمية والشريعة والكفر والإيمان والولاء والبراء.
إن الواقع – كما ذكرت مرارا – أن الحزبيات المتشددة، وفي الوقت الذي أقبلت فيه على تفجير الدين في وجه أهل «فسطاط الكفر» كما زعمت، قامت في الواقع بتفجير الدين في وجه السلطات والمجتمعات والمؤسسات الدينية. والحق أن الدين لا يمكن خطفه، كأنما هو طائرة بيد عصابة، بحسب التشبيه الأميركي، ليس لأن المتطرفين قلة فقط؛ بل ولأن المجتمعات هي التي تعتنق الدين وتحتضنه، وهي التي تتولى حراسته والعناية به، والمؤسسات الدينية إحدى الجهات التي تعمل لدى المجتمعات في تبليغ الدين وتعليمه، والدولة من جهة أخرى تتولى مع المؤسسات الدينية «صون الدين على أعرافه المستقرة». هذا كله هو خلاصة التصور الذي كان سائدا في الأزمنة الكلاسيكية العربية – الإسلامية. وقد اختلف الأمر منذ نحو القرن من الزمان، إذ إن الحداثة من جهة، والحراكات التجديدية والتطهيرية في الدين من جهة أخرى (إما للخروج من الأعراف المستقرة، أو للتقاتل مع الظروف العصرية) ضربت «التقاليد». ولأن المؤسسات الدينية كانت جزءا من التقليد سواء في مهامها الدينية، أو في علاقاتها بالدولة؛ فقد نالها الكثير من الضعف، وما استطاعت التحول بسرعة والتلاؤم ضمن حركيات للإصلاح الديني، فحاول الحلول محلها الطهوريون المتشددون الذين تسلموا زمام سياسات الهوية، كما في سائر الديانات والعصبيات القومية. وزاد الطين بلة أن الأنظمة الثورية التي استولت على الدولة الوطنية في أكثر ديار العرب والمسلمين، اعتبرت أن المؤسسات الدينية تشكل عقبة أمام برامج التحديث والعصرية. وهكذا وقعت المؤسسات الدينية في أكثر الدول بين راديكاليتين: راديكالية حركات الهوية والطهورية، وراديكالية الأنظمة الثورية التي تريد إزاحة الدين من المجال العام. ومن فوق رؤوس أرباب المناصب الدينية أو مع استكانتهم بدأت الأنظمة في الستينات من القرن الماضي تتصارع مع حركات الهوية المتحولة إلى أحزاب متشددة. وهكذا تجاوز الطرفان أو الأطراف المؤسسات الدينية، التي ظلت المجتمعات تحتضنها لعدة أسباب أو وظائف: العبادات، والتعليم الديني، والفتوى، ونتيجة التصرفات المستجدة للجماعات الدينية الحزبية، والتي استخدمت الدين في صراعاتها مع السلطات والمجتمعات، تطرق الاختلال إلى سائر الوظائف التي كانت تمارسها المؤسسة الدينية، وبخاصة الوظيفة الرابعة: وظيفة الإرشاد العام! فالحداثة تعرض توجهات وتوجيهات متعددة، والجماعات الدينية التي قامت بتحويلات في المفاهيم الأساسية للدين بوهم أو داعية تطهيره وصونه من التقليد والتلوث الحداثي، كلا الواقعين، حد كثيرا من الخيارات الإرشادية المترددة والضائعة بين الأصالة والتلاؤم من جانب المؤسسات الدينية. إن أطروحة نظام الشريعة الضروري التطبيق، وإن الإسلام دين ودولة، كلتا المقولتين لاقت قبولا لدى العامة الخائفة من الحداثيات، والنافرة من الأنظمة. وهكذا وكما يقول الشاعر العربي:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد!
في مقالة سابقة لي بجريدة «الشرق الأوسط»، سألت نفسي والقارئ: هل تتغير طبيعة الدين؟ بالطبع لا تتغير طبيعة الدين في العقائد والعبادات. لكنني أردت إبراز عمق التحويلات والتحويرات التي قام بها الأصوليون في المفاهيم والرسوم وحتى الشعائر! ودون تكرار لا داعي له: نحن أمام واقع لا يمكن إنكاره: الدين في خطر، والدولة في خطر. وأحد أسباب الخطر على الدولة: إدخال الدين في بطنها من جانب الحزبيات المتشددة التي تريد استخدامه في الوصول إلى السلطة أو الصراع عليها. لكن الخطر على الدين يبقى أوضح من الخطر على الدولة. ولذلك فإذا كان رجالات الدولة همهم الخلاص من الجماعات المقاتلة باسم الإسلام؛ فإن المجتمعات والمؤسسات همها «صون الدين على أصوله وأعرافه المستقرة» دون استيلاء أو احتكار أو تشويه!
لقد انتهت القسمة التقليدية بين الدين والدولة أو إدارة الشأن العام، لاختلاف الظروف والمفاهيم والوظائف. ولذلك فإن سياسات الدين ينبغي أن تتغير. وقد حاولت الدول في الحقبة الماضية استتباع المؤسسات الدينية، وإدارة الدين من طريقها. وأحداث العقدين الأخيرين تثبت فشل تلك السياسات. في الوقت الذي لا يمكن القول فيه إن المؤسسات الدينية كانت أكثر نجاحا. وهكذا فإن كلا من الطرفين ينبغي أن يكون قد تلقى درسا من سلبيات الماضي القريب. ما عادت الدولة تريد الاستيلاء على إدارة الدين. وما عادت المؤسسة الدينية سعيدة باستخدام الدين في الاستيلاء على السلطة كما في النموذج الإيراني. ولذلك، واستنادا إلى دروس التجربة، يكون على المؤسسة الدينية القيام بأمرين: تجديد الوعي بالمهمة والرسالة، وإعادة البناء والتأهل لتربية دينية تعيد السكينة إلى نفوس المؤمنين من طريق إخراج الدين من بطن الدولة. وإذا اقتنعت السلطات بعدم الحاجة إلى استخدام الدين في الشرعنة، واقتنعت المؤسسة الدينية بأن الأصوليات تظلم الدين وتكلفه بما لا يطاق؛ فإن الظاهرتين: الأصولية والطغيان، ستختفيان في السنوات الـ10 القادمة.
إن المهمة الأصعب هي تلك المطروحة على المؤسسة الدينية وفي مجالات ثلاث: الاهتمام بإعادة البناء الثقافي والديني، والاهتمام بإعادة الانتظام إلى المهمات الدينية (التقليدية)، والاهتمام باستحداث نهضة إصلاحية من طريق نقد عمليات تحويل المفاهيم!