إقتراح قانون وُلِد من رحم “كورونا” ومتغيّرات سوق العمل
ما قبل «كورونا» ليس كما بعدها. كيف لا والجائحة قلبت المقاييس رأساً على عقب. سيّئاتها كانت كثيرة ومنها ما زال يتفاعل. لكن ليس ثمة شيء سيئ بالمطلق. قبل الجائحة، مثلاً، تردّد كثيرون (مؤسسات وموظفون) في خوض غمار تجربة العمل عن بُعد. لكن قسرية ذلك العمل في خلال الجائحة – ونتائجه المُرضِية في أحيان كثيرة – فتحت باب النقاش واسعاً. مع أو ضد؟ الأمور ليست محسومة. أما في لبنان، فقد جاء مؤخّراً اقتراح قانون يسمح بإدخال العمل عن بُعد ضمن منظومة الحماية الاجتماعية ليدفع بالنقاش قُدُماً.
دراسات عالمية عديدة أضاءت في الآونة الأخيرة على حسنات العمل عن بُعد. جاء ذلك بعد استمزاج آراء عشرات آلاف الموظفين في بيئات عمل مختلفة. والكلام هنا أساساً عن تحسّن الإنتاجية، زيادة ساعات العمل الفعلية، تراجُع معدّل الدوران (turnover ratio)، خفض تكاليف التنقّل وانخفاض نسبة الإصابة بأمراض القلب بسبب تراجع نسبة التوتّر. لكن لنَعُد إلى لبنان.
… وتحديداً إلى اقتراح القانون الذي تقدّمت به رئيسة لجنة المرأة والطفل النيابية، النائبة الدكتورة عناية عز الدين، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة في الثامن من الشهر الحالي. فهو يقضي بإدخال تعديلات على قانون العمل اللبناني بما يتلاءم مع اعتماد العمل عن بُعد والعمل الجزئي – أي العمل المَرِن – ضمن منظومة الحماية الاجتماعية. طبعاً، من شأن القانون لو أبصر النور أن يأتي بالمنفعة على الرجل العامل والمرأة العاملة على السواء. لكنه يصبّ أيضاً في مسار الحدّ من أسباب إقصاء المرأة من منظومة الحماية وتحويلها للعمل ضمن القطاع غير المنظّم أو العمل الهشّ. الحاجة إلى تعديل قانون العمل اللبناني بما يتماشى مع المتغيّرات والتحديثات الجمّة التي طرأت منذ صدوره العام 1946 ليست سرّاً. لكن هناك تساؤلات كثيرة تحيط بهذا التعديل ليس أقلّها تأثيراته السلبية كما الإيجابية، لا سيّما على المرأة والأم العاملة في سياق تمكينها وتثبيتها في سوق العمل. فماذا في التفاصيل؟
بين العمل والرعاية
في حديث لـ”نداء الوطن” أشارت النائبة عز الدين إلى أن اقتراح القانون أُعدّ بناء على دراسة تمّت بالتعاون مع وبدعم من منظمة الإسكوا. وذلك استجابة للتوصيات التي صدرت عن التقرير الذي وُضع بعد سلسلة جلسات الاستماع العلنية التي عقدتها لجنة المرأة والطفل النيابية حول الأمن الاقتصادي للمرأة في ظل الأزمات. وهي خَلُصت إلى ضرورة العمل على سنّ تشريعات تنظّم الحق بالعمل المَرِن وأنماط العمل الجديدة لدمجها في قانون العمل. “خلال جائحة كورونا، وللمرة الأولى في تاريخ مجلس النواب، عقدنا جلسات استماع علنية مع سيّدات يُدرن أعمالاً مختلفة في كافة القطاعات، ووقفنا عند معاناتهن ومشاكلهن. وقد تبيّن لنا أن النساء اللواتي تأثّرن اقتصادياً أو سُرّحن من وظائفهن أو خُفّفت ساعات عملهن هنّ أكثر من الرجال”، كما تشرح عز الدين. ولفتت إلى أن قانون العمل الحالي قاصر من نواحٍ كثيرة عن تغطية هذا النوع من الأعمال نظراً لقِدَمِه كَنَصّ. في حين أن العمل عن بُعد والعمل الجزئي أصبحا من ضمن أكثر أشكال العمل انتشاراً وسط التقدّم التقني الحاصل. لذا كان لا بد من إدخاله في منظومة الحماية الاجتماعية الحالية على الرغم من قصورها عن تحقيق الآمال بمنظومة عصرية حامية بالفعل.
لِمَ التركيز على المرأة تحديداً؟ “نعلم جميعاً أن هناك الكثير من أعمال الرعاية الموكلة إلى المرأة، كما أن هناك مرحلة من حياتها (مرحلة تكوين الأسرة) تتراجع فيها من الناحية العملية لأن بيئة العمل ليست صديقة لها بالمجمل. وكأن هناك تعارضاً بين حقّها في أن تكون أمّاً مسؤولة عن عائلة، وحقّها في تحقيق نفسها مهنياً وأن تكون منتجة اقتصادياً”، على حدّ قول عز الدين. ومن ناحية أخرى، تبيّن وفقاً لجلسات الاستماع أن غالبية السيّدات اللواتي تركن (أو سُرّحن مِن) عملهن بشكل غير منظّم لم يتمتّعن بأي نوع من الحماية الاجتماعية. من هنا قامت لجنة المرأة والطفل بدراسة تحليلية بالتعاون مع الإسكوا حول تقنيات العمل عن بُعد والعمل الجزئي. وهي بالواقع قراءة تحليلية لقانون العمل اللبناني: “أخذنا الدراسة التي سنُطلقها قريباً جداً في ورشة عمل داخل مجلس النواب، وعملنا عليها وأدخلنا بعض التعديلات على قانون العمل اللبناني تُمكّن من القيام بالعمل عن بُعد لكن بشكل منظّم ومُعتَرَف به في القانون، حفاظاً على الحماية الاجتماعية للعاملين وحرصاً على ضمانة بيئة العمل ورب العمل والعامل على حدّ سواء”، كما تضيف.
المرأة أوّل المستفيدين
نسأل عن المواد الأساسية التي يطالها التعديل ومضمونها. هي ثلاث: الأولى والثانية والإثنتا عشرة في حين أن التعديلات سيُعلَن عنها بعد قيام رئيس مجلس النواب بإحالة اقتراح القانون إلى اللجان المختصة. الاقتراح يكرّس أنماط العمل الحديثة التي أصبحت سائدة عالمياً في سوق العمل وقوانينه. وتتّسم الأنماط بالمرونة في ساعات العمل كالدوام الجزئي والعمل الموسمي، وفي مكان العمل كالعمل عن بُعد. وهذا يؤدّي إلى خفض كلفة الإنتاج وزيادة القدرة التنافسية، تحسين بيئة الاستثمار وجعل الاتفاقيات المبرمة بهذا الخصوص ضمن الأطر القانونية الحامية لجميع الأطراف. وتلفت عز الدين إلى أن الأنماط الحديثة أصبحت أحد أبرز الخيارات التي يفضّلها الأجَراء، لما تؤمّنه من مرونة وخلق فرص عمل خاصة لأولئك الذين يقع على عاتقهم عبء الرعاية الاجتماعية كالنساء. ويلحظ الاقتراح حق الأجَراء العاملين بدوام جزئي، الموسميّين منهم والعاملين عن بُعد، في الاستفادة من الحماية ذاتها التي يتمتّع بها الأجَراء الدائمون والعاملون حضورياً.
من المتوقّع أن يسهّل اقتراح القانون العمل على كل العاملين عن بُعد، كونه يتبع مبدأ العدالة والشمولية. بيد أن نتائجه ستنعكس على المرأة بشكل خاص، كونه سيُساعدها في الترقّي بعملها لأنها لن تكون مضطرة للتغيّب أثناء فترة الحمل والإنجاب ومرض الأطفال وغيرها من الظروف. كما تمّ ربط الاقتراح بساعات العمل إذ لم يعد مطلوباً تأمين ساعات معيّنة إنما وظائف محدّدة. وهنا نصل إلى الانعكاسات الإيجابية. هي لا شك كثيرة، بحسب عز الدين: تبدأ بالوفر الذي سيحقّقه رب العمل والمؤسسة أو الشركة ومن ضمنه تكاليف الإيجارات ومنها المباني المستأجرة من قِبَل الدولة، ولا تنتهي بالتخفيف من الازدحام المروري والتلوّث البيئي.
للأنماط الحديثة شروط
بالحديث عن أنماط العمل الحديثة، نصغي إلى رأي الاختصاصي في بناء القدرات والتدريب والخبير المتخصّص في الموارد البشرية والحوكمة، شارل صليبا. فقد شرح في اتصال مع “نداء الوطن” دور قانون العمل في ذلك كونه ناظم العلاقة الرئيس بين رب العمل والموظف. لكن “القانون اللبناني وُضع منذ زمن في حين أننا نشهد تغيّرات كبيرة في سوق العمل وأنماطه وطبيعة الوظائف. هناك وظائف جديدة تظهر وأخرى تنكفئ. لذا الحاجة لمراجعة القانون وتحديثه ماسّة بلا شك. وهنا أهمية خطوة النائب عز الدين كون الاقتراح يتناول حقوق رب العمل والموظف توازياً”، بحسب صليبا.
لكن ما أهمية منح الأولوية لأنماط العمل؟ الأنماط تلك بدأت تتبلور باطّراد في الغرب – وفي فرنسا تحديداً، حتى قبل جائحة كورونا – وهي نتيجة ديناميّتين أساسيّتين: الأولى تغيّر التركيبة الاجتماعية بحيث أصبح العمل يحتل الحيّز الأكبر من حياة الأغلبية الساحقة من العائلات (وهنا نقصد الأب والأم معاً)، ما ساهم في زيادة واضحة في نِسَب المشاكل الأسرية وحالات الطلاق والتعنيف الأسري. أما الثانية فتتمحور حول التطوّر التكنولوجي بحيث وفّرت الوسائل الحديثة إمكانية العمل عن بُعد بعد أن كانت محدودة للغاية سابقاً. “هكذا اجتمعت الحالة الاجتماعية وتأثير الوضع العملي على العائلات مع التطوّر التكنولوجي والإنتاجية في العمل لتدعم التفكير في سُبُل تطوير طرق العمل تطبيقاً لهدف الأنماط الحديثة – أي مواءمة متطلّبات العمل الحديث مع حياة اجتماعية متوازية نفسياً وعقلياً واجتماعياً”، والكلام دوماً لصليبا.
دخول المرأة ميدان العمل بشكل “لا اختياري” ظهّرها كعضو أكثر فعالية وقدرة وإنتاجية في المجتمع. لكن دورها العملي لم ولن ينفي وظيفتها العائلية العضوية. فكيف التوفيق بين الدورين؟ يرى صليبا أنه “لا يمكن بعد اليوم بقاء – أو إبقاء – المرأة في المنزل لأن دخولها سوق العمل بات واقعاً. يجب خلق أنماط عمل تتناسب مع الدورين. وهذا ما قامت به النائبة عز الدين لأن الاقتراح سيسمح بتواجد الأهل لفترات أطول مع الأبناء، بدلاً من إيكال المهمة إلى المربية أو دار الحضانة. ولذلك انعكاس إيجابي على صحّتهم العقلية والنفسية، الأمر الذي لم يكرّسه أي قانون عمل حول العالم حتى اليوم”.
أبعد من التعديلات
لكن الحسنات تواجهها عثرات أيضاً. فكيف سيُطبَّق العمل عن بُعد في المصانع التي تحتاج إلى مهارات يدوية في دورتها الإنتاجية؟ وكيف ستُحتسب أجور نهاية الخدمة للعاملين حضورياً أو عن بُعد؟ ثم هل يمكن فرض القانون على كافة أرباب العمل أم أنه سيطال مؤسسات دون سواها مع ترك حرية اختيار التطبيق لرب العمل؟ وماذا لو خلق ذلك شَرخاً بين موظفي مؤسسة وأخرى أو حتى بين موظفي المؤسسة الواحدة؟ هي أسئلة كثيرة إجاباتها رهن ما سيؤول إليه اقتراح القانون. ويذهب صليبا أبعد من ذلك. فقد اعتبر أن العمل عن بُعد لا يضمن إنتاجية الموظف ما لم يتمتع الأخير بدرجة عالية من الالتزام. هذا إضافة إلى ما يتطلّبه العمل الناجح من شعور بالانتماء وتَفاعُل بين الموظفين. ويتابع: “لا تتمتع كافة المنازل ببيئة مناسبة لظروف العمل عن بُعد. فخدمة الإنترنت ليست بالشكل المطلوب – إن لم نَقُل إنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. كما أن المنازل بمعظمها ليست مجهّزة بمكاتب خاصة للعمل. فكيف للزوج، مثلاً، أن يدخل اجتماعاً عن بُعد في حين أن الزوجة تقوم بأعمال منزلية والأولاد يملؤون المكان ضجيجاً؟”.
ما الحل إذاً؟ يجيب صليبا: “للوصول إلى قانون عمل سليم وقابل للتطبيق، يجب إعادة تقييم قانون العمل بكافة مواده بناء على تغيّر وتطوّر سوق العمل كما العلاقة بين رب العمل والموظف. بعدها يجري تحديد النصوص التي تحتاج إلى إلغاء أو تحسين أو استحداث. وعلى هذا الأساس يتمّ تنظيم شامل للقانون بدلاً من عملية ترقيع لمواد دون أخرى”. في الأثناء، يبقى اقتراح القانون نقلة نوعية تحرّك مياهاً طالما كانت راكدة. على أمل ألا يذهب وقعه سدى في بلد يسير بنقلات متسارعة إلى الخلف.