أنظار لا تزال شاخصة إلى موعد الجلسة التي سبق وحدّدها رئيس المجلس نهاية هذا الشهر، وما إذا كان تثبيته قد بات تحصيل حاصل، ولا منفذ لإرجائه لسبب من الأسباب، أو حجّة طارئة، أو ليس بعد.
وأنظار تركّز على المتوقع في الجلسة نفسها وما سوف يعقبها من خطاب قسم يدشّن العهد الجديد بعد سنتين ونصف السنة من الفراغ. وهنا ترجيحات العدد، وتوزعات التصويت، خصوصاً إذا استمرت المبارزة بين مرشحين، وإذا كان كل شيء حُسم بوضوح منذ الآن، بحيث تصير الأيام الفاصلة عن الجلسة بحكم اللاغية، أو عديمة الأثر. وخطاب القسم، فيما لو توّج العماد عون رئيساً، وهل سيتوسّع في عناوين كلمته في ذكرى ١٣ تشرين، أو سيكون هناك «نقلة» في اتجاه موضوعات وإشارات من خارج المتداول الى الآن؟
وأنظار تذهب الى ما بعد الاستحقاق وقسمه، الى بداية إقلاع العهد، المتمثل بإتاحة السبيل نحو قيام حكومة جديدة، محدَد مسبقاً أجلها بالفاصل بين انتخابات الرئاسة وبين الانتخابات النيابية.
أنظار تذهب اذاً في اتجاهات ثلاثة: إذا كان قضي الأمر أو ليس بعد، واللوحية الاجمالية لتنفيذ هذا الأمر، والتداعيات الأولى لسدّ الشغور بالطريقة التي تدحرجت «وحدة الأضداد» على الطريقة اللبنانية صوبها.
في الاتجاهات الثلاثة، وحيثما ذهبت الأنظار أو كان التركيز، تحضر إشكالية واحدة: كيفية إزالة آثار الشغور.
فالخطأ الجسيم في التحليل وفي بناء الموقف من الآن فصاعداً يكون بتوهّم أنّ الشغور ما أن يخلي سبيله لتبوّؤ الشخص – مركز التقاطعات الراهنة، للمنصب، حتى يصير ماضياً من دون أثر، بحيث يُعاود النظام السياسي تشغيل محرّكه، بالتي هي أحسن، ولا حاجة للالتفات الى الوراء. وهذا خطأ، لأنّه إذا استطعنا فعلاً تحقيق إنجاز إنهاء الشغور نهاية هذا الشهر، فإن العناصر التي صنعت هذا الشغور ما زالت هنا، بل إن الشغور ما كان لينتهي بتضاؤل هذه العناصر، وإنما بتقديم أولوية إنهاء الشغور نفسه: تفضيل ما اعتبرته العناصر الموجدة والمطيلة لفترة الشغور معبراً وحيداً لسدّ الفراغ، على استمرار هذه العناصر الموجدة والمطيلة للشغور في إثارة الاحتقان، بما يحوّل الفراغ من رئاسي الى مؤسسي هيكلي شامل تباعاً.
اختيار هذا «المعبر الوحيد» لسدّ الشغور لا يكفل لوحده إلغاء آثار هذا الشغور. والعهد الجديد سيقلع بشكل جيد بمقدار ما تعي الأطراف المشاركة في تكوين معالمه الأولى هذا. سلوك «المعبر الوحيد» المتاح، بشروط الشغور، لإنهائه، لا يعني أن الأزمة صارت وراءنا، ولا أن الأحلام الوردية تنتظرنا الواحد بعد الآخر لتعويضنا ما فات. اتصال لبنان بالحرب السورية، من بوابة إهدار الحدود الوطنية، ومشاركة «حزب الله» بالحرب السورية، التي هي في آن حرب لنصرة نظام دموي، وحرب مذهبية، ما زال هو الواقع الذي يكبح أحلام اللبنانيين إن قدّر لهم الاسترسال بها. كيفية ترجمة مقولة «تحييد الدولة» واقعاً تدريجياً تحتاج الى مظلة جديدة، ولغة جديدة، لكن أيضاً الى تحوّلها من دائرة حزبية محصورة الى دائرة أوسع، تشمل المجتمع المدني والهيئات الاقتصادية ومرجعيات دينية أساسية، وكلّ هذا انطلاقاً من أساس عملي: إعادة تحريك الاقتصاد اللبناني تحتاج الى البدء بتحييد لبنان عن الحرب السورية، بخطوات جدية. وإذا استمرت المكابرة على ذلك فالنتيجة ستكون: صعوبة الإقلاع مجدداً بعجلة الاقتصاد. الكبوة والكساد الحاليان لا يمكن حلهما «إدارياً» ولا «إرداوياً»، من دون دفع سياسي باتجاه تحييد لبنان عن الحرب السورية، وعن «التحزب العصبي» وراء الانقسامات الإقليمية المذهبية المتناحرة في الشرق الأوسط. مجيء حليف وثيق لـ«حزب الله» الى قصر الرئاسة سيجعل الدولة في نهاية الأمر غير قادرة على الاستثمار في التمايز المعنوي بين كيانها وبين كيان الحزب، من دون إعطاء هذا التمايز المعنوي، الذي يستفيد منه الحزب بمعنى من المعاني، ساعة يحتاجه لحماية نفسه من التطلّب الدولي بحقه، الى تمايز جدّي. ومدخل هذا هو سياسة متوازنة يقلع بها العهد الجديد، وتكون على رئيسه صياغة كلماتها المفتاحية، على هذا الصعيد.
إعادة تحريك الاقتصاد، وإعطاء انطباع تحييدي تدريجي للبلد عن حرب سوريا وصراعات المنطقة، وإتاحة السبيل لتشكيل حكومة متعددة ومتجانسة: هذه أحلام وردية بطبيعة الحال بالنظر الى تجربة الانقلاب على العهود (القمصان السود) ثم التعطيل الحكومي ثم الشغور الرئاسي المزمن. لكن إن لم يكن من الممكن الخطو في أي من هذه الاتجاهات، وإذا تعثرت فوق ذلك همة الاتفاق على قانون الانتخاب، فيعني ذلك أن آثار الشغور ستبقى تستفحل رغم سد الشغور نفسه.
هناك من يضيع اليوم وقته في قسمة «غالب ومغلوب»، وهناك من يضيع وقته في مكابرة مطلقة بأنه «لا غالب ولا مغلوب»: ينسى هذا وذاك أن الأمور ما زالت متحركة، وهي كذلك بعد الانتخابات الرئاسية، ما دام سيعقبها إقلاع حكومي للعهد، ثم قانون انتخاب، ثم انتخابات نيابية، وأن الأنظار ستتجه بشكل أساسي الى الانتخابات النيابية المقبلة بعد انتخاب رئيس، ما دام مجلس ألفين وتسعة يكون عملياً قد لفظ أنفاسه الأخيرة، وتجربته المرة، تجربة أكثرية استقلالوية لم تستطع الحفاظ على نفسها لأطول من بضعة أيام بعد فوزها في حزيران ألفين وتسعة.
في هذا الفاصل بين انتخابات الرئاسة والانتخابات النيابية يبقى التحدي: إما إزالة آثار الشغور تباعاً، وإما استفحالها واستمرار عملية تعميم الشغور رغم إنهائه من فوق.