طالما السلطة بين متفرِّج ومنكر وباسيل يكلِّف ويؤلِّف.. وبما أن الرغيف لا يمزح
لماذا تُشكّل الحكومات في الدول؟ السؤال يبدو بديهياً أو ساذجاً، لكن في لبنان، وفي هذه اللحظة تحديداً يبدو أكثر من مهم. تُنشأ الحكومات، احتراماً للدستور والنظام الديموقراطي، ثم لإدارة الشأن العام، وصياغة سياسات لمواجهة التحديات، والتنمية، وايجاد فرص، ونسج علاقات تعاون وتكامل مع العالم.
لا شيء من هذه العناوين قائم أو سليم في لبنان، حيث يراوح المشهد بين فتنة متنقلة تستحضر الحرب وخطابها برعاية رموز سلطة تحالف السلاح والفساد، وأزمة مالية، اقتصادية ونقدية فرضت أعباء غير مسبوقة حتى في ذروة الحرب الأهلية، ورتّبت أخطاراً محدقة بالقطاع العام والقطاعات الانتاجية أو ما تبقى منها، تسبّبت بها أيضاً هذه السلطة. أما الأكثر استفزازاً من كل ما سبق، فالانسداد السياسي أمام أي إشارة توحي بأن الطبقة السياسية بصدد كسر الأزمة، مع العلم أنها أعجز من أن تقتنع بالخروج من عقلية المحاصصة أو تدركَ بأن الزمن تحوّل، فتارة تراهن على عامل الوقت أو المطر أو التناقضات أو تعب الناس أو تخويفهم لتضييع ما أنجزته الثورة.
إذا مش الاثنين.. الخميس
تحديد موعد الاستشارات النيابية، مثلاً، وبعد أكثر من شهر على استقالة الحكومة، ينافس سعر صرف الدولار، فيصبح على موعد ويمسي على آخر. النكتةُ السمجةُ ليست هنا. دَعْ عنك الدستورَ والميثاقَ والأعراف.. واترك الثورةَ وغضبَ الشعبِ وصرخات الـ «هيلا هيلا هو..»، بل دَعْ عنك كل ما يَمتُّ إلى العقل والمنطق؛ أيّ زمن هو ذاك الذي وصلنا إليه حيث يُربط أمرُ رئاسة مجلس الوزراء، بصفتها الدستورية والوطنية، وبمكانتها الاعتبارية بوصفها الموقع السني الأول، بيد الوزير المقال بضغط الثورة جبران باسيل، الذي يلتقي مرشحين، ويحدد شروطاً ومواصفات وحصصاً.. نعم يحدد شروطاً!؟ أيّ قعر ذاك الذي وصلنا إليه. من يُفهم الطبقة السياسية، وخصوصاً الوجوه المستفزة والبائسة، أن صورتها وصوتها ومواقفها غير مرغوبة أصلاً؟
لا أحد يعرف ماذا ينتظر رئيس الجمهورية ميشال عون (الذي أقسم على احترام الدستور، والتذكير بهذا المعطى بات ضرورياً) ليحدد موعد الاستشارات النيابية، وتكرار الدعوة إذا ما اقتضى الأمر، ما سرّ التمسك الفجّ بتحديد شكل الحكومة وأطرافها وبرنامجها بشكل مسبق وتلزيم كل ذلك لباسيل بهدف إعادة انتاج حكومة محاصصة وكيديات وفساد كالتي أسقطها الناس، ولو على حساب الدستور واستنزاف ما تبقى من أمل باستدراك الوضع قبل الانهيار!
الأزمة مستفحلة، الإفلاس بات واقعاً، الانهيار يخيم على كل القطاعات، الاستقرار أكثر من هشّ، الحرب الأهلية تنتظر إشعال الفتيل لا أكثر، والفتنة استيقظت وأيقظت معها كل شياطين الشرّ.. ماذا ينتظر الرئيس، أو هل هو على اطلاع أصلاً على ما يجري؟ لماذا يراوح بين التفرّج والانكار، وتكرار مواقف تنتمي لزمن آخر، كالقول في عدد من الإطلالات التلفزيونية منذ بدء الثورة إنه قدّم مشاريع قوانين لمكافحة الفساد، وأحال ملفات للقضاء.. علماً أن هذه المواقف محلّ نظر لأسباب متعددة. يوحي من جهة أنه يفعل، ومن جهة ثانية يحمي حالة فراغ مخيفة ويحول دون اجتراح أي مبادرة حقيقية لحل الأزمة!
واقع اللبنانيين الراهن هو بين: دولة مستهترة، وكارتيلات مالية واقتصادية أشبه بالمافيات، ورقابة غائبة.. عربدةٌ جماعيةٌ تتناوب على جلد المواطن بالاحتكار هنا، والتلاعب هناك؛ من تعامل المصارف مع رواتب وودائع الناس، إلى أسعار المشتقات النفطية، الأدوية، الطحين، السلع الغذائية والمواد التموينية، وصولاً إلى عجائب سوق الصرافين. المصرفُ المركزي «مشكوراً» يصدر يومياً بياناً يوضح فيه أن سعر صرف الدولار كذا، لكن للصيارفة رأي مغاير، والبنوك في عالم آخر أيضاً.. الناس محتارة، بل ضائعة… وبينها وبين الفوضى العارمة شعرة أو أقل. سيركٌ كبير فيه العجب، ثم يَسأل من يسأل بسخافة وبلادة لماذا يثور الشعب ويغضب ويُعلي الصرخة؟
ما يجري لا يُغيب واقع البعد الخارجي للأزمة، والتباين الأميركي – الأوروبي الروسي إزاء الحلول المطروحة، لكن الرهان والمعوّل إزاء كل ذلك، على صمود الثورة، وبراغماتيتها.
الثورة والرؤية السياسية
أمس، احتفلت الثورة في يومها السادس والأربعين بـ«أحد الوضوح»، ورفعت شعارات سياسية حددت من خلالها بعض المطالب وفي مقدمها الحكومة الانتقالية، وهي خطوة متقدمة، فالسؤال – الهاجس بدأ يكبر شيئاً فشيئاً حول ضرورة تأطير المطالب التي رفعها الشعب سريعاً في سلسلة واضحة، ووفق جدول زمني واعتماد كل التكتيكات والضغوط لتحقيقها.. لأجل هذا نزل الناس إلى الشوارع والساحات، والعمل بات ضرورياً لتحقيق الأهداف الواحد تلو الآخر بحسب الأهمية والأولوية، مع إبقاء سيف «صوت الناس» مسلطاً في كل لحظة أمام أي تهوّر للسلطة. لا ضرورة للتأكيد بأن الطبقة السياسية الحاكمة لن تترك سبيلاً لإجهاض الثورة، واستخدام العصا الغليظة للضغط على الشعب بالقضاء والأجهزة العسكرية والأمنية، ولن تتوانى عن إنقاذ دولتها العميقة بجميع وجوهها الفاسدة: السياسية، الحزبية، المصرفية، الإدارية، القطاعية..
الرغيف لا يمزح
في الخلاصة، نحن أمام مراوحة واستنزاف يقتضي ابتكار آليات ضغط جديدة لفضح السلطة وتعريتها، والمسارعة أيضاً إلى البناء على ما تمّ انجازه من مكتسبات. المتربصون بالثورة كثر، الطبقة السياسية، الطقس، المتزلفون من جهة، والأزمة المالية الخانقة من جهة ثانية، ذلك أن الرغيف لا يمزح، وكل ذلك يقتضي المسارعة إلى إطلاق ثورة سياسية تدعم وتواكب الثورة الشعبية، وتحميها من تغوّل السلطة ومكائدها.
وحتى لا يفهم هذا الكلام بطريقة خاطئة، نعم لإبقاء اعتصامات الساحات حية، متفاعلة، متوقدة، متوهجة، فضاء لصناعة التاريخ.. ومع كل ذلك ثمة خطوات يمكن التركيز عليها، منها:
– جدولة المطالب السياسية التي صارت معروفة، والضغط لتنفيذها، وصولاً إلى تسمية رئيس حكومة انتقالية، طالما طريق الاستشارات الدستورية ما تزال مقطوعة.
– التمسك بالاعتصام أمام المؤسسات العامة وبيوت المسؤولين.
– العصيان المدني من خلال الامتناع عن دفع الفواتير.
– تكليف فريق مختص بأرشفة تجاوزات رموز السلطة والكارتيلات المالية، كنهب المال العام، والتعدي على الأملاك العامة والبحرية والمشاعات، والتنازل عن دور الدولة ومرافقها للأحزاب والمليشيات.
وفي كل ذلك، عدم الثقة بالسلطة ورموزها وأحزابها، والانتباه جيداً من مناوراتها، ومن سعيها لقطف ثمار الثورة والتنكر لها، فالتاريخ الطريّ جداً، كفيل يشهد بأنها تفعل.