تعود الديبلوماسية الأميركية إلى لبنان من باب عريض، تريد من خلاله شرح رؤيتها في المنطقة لتطويق إيران وعزل حزب الله، وشد عصب حلفائها. ما يصح مع دول المنطقة، لا يصح في لبنان، بعدما تراجع الدور الأميركي لسنوات
لا يزال الوسط السياسي منشغلاً بمتابعة ارتدادات جولة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى المنطقة، التي أرفقها بزيارة وكيله ديفيد هيل إلى بيروت. وإذا كانت الزيارتان مترابطتين وفق الأجندة الأميركية، فإن المفارقة تأتي من مكان آخر.
استخدم الأميركيون القاهرة مرة جديدة لتوجيه رسالتهم إلى حلفائهم. سبق للرئيس الأميركي باراك أوباما أن ألقى خطاباً في جامعة القاهرة عام 2009، حدد فيه رؤيته للمنطقة التي استمرت طوال فترتي ولايته، ورسم علاقة جديدة مع العالم الإسلامي ومع حلفاء واشنطن وخصومها. بعد عشرة أعوام جاء بومبيو، ليرسم رؤية إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويرد على أوباما، ويتبنى سياسة دعم من أسماهم حلفاء واشنطن، في وقت كانت بعض الفوضى تدب في صفوف هؤلاء بعدما قرر ترامب سحب الجيش الأميركي من سوريا. وإذا كان بومبيو طمأن عواصم المنطقة الحليفة بأن واشنطن لن تتخلى عن حلفائها وعن الاستمرار في ضرب تنظيم الدولة الإسلامية، وتقليص نفوذ إيران، فإن الخطاب نفسه حمله موفده هيل إلى لبنان مع فوارق أساسية.
تختلف مقاربة العواصم المعنية لسياسة واشنطن وقدرتها على التكيف مع أي سياسة أميركية، عن مقاربة لبنان بكل أفرقائه. بومبيو نفسه تحدث عن استمرار الوجود الأميركي في العراق، كنقطة انطلاق لأي تدخل أميركي، بعدما كان ترامب أكد ذلك بنفسه من خلال زيارته المفاجئة للعراق في عيد الميلاد الفائت. وعواصم المنطقة، معنية بالتعامل مع هذه السياسة كل من منظارها. تركيا تريد حصتها في سوريا، وإسرائيل قدمت لائحة طويلة من المطالب تتعلق بإيران ولبنان وسوريا، ودول الخليج معنية باليمن والعراق وإعمار سوريا وتطويق نفوذ إيران. وكل واحدة من هذه الدول ترسم سياستها الأمنية والمالية مع واشنطن من زوايا تهم مصالحها.
لكن وضع لبنان مختلف، والإدارة الأميركية تدرك أنها لا تتعامل معه كجهة واحدة، إنما تتحدث على أكثر من مستوى ومع أكثر من فريق. صحيح أن الخطاب الأميركي الرسمي الذي عبّر عنه هيل لم يختلف بطبيعته في المقار الرسمية التي زارها، ولا لائحة التحذيرات التي نقلها أو الإحاطة بوضع المنطقة، إلا أن كلمته المكتوبة بعد زيارته رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري هي التي استحوذت على الاهتمام. ليعقبها لاحقاً نقل كلام عن هيل يتحدث فيه عن تمسك الإدارة الأميركية بحلفائها وبأن على هؤلاء ألا يعتقدوا أن واشنطن انسحبت من سوريا نهائياً بالمعنى السياسي – وحتى العسكري، وأن على هؤلاء ألا يضعفوا أمام أي ضغط سياسي محلي أو إقليمي.
تشريحاً لهذا الموقف، يمكن السؤال عن أي حلفاء يتحدث الأميركيون، وإلى من ينقل الموفد الأميركي هذه الرسائل التي يحرص على إيصالها علناً؟
منذ عام 2005، تعددت زيارات الموفدين الأميركيين على أكثر من مستوى (وزراء خارجية أو مساعديهم من رتب مختلفة). وفي كل مرة تقريباً، كانت لفريق 14 آذار حصة وافرة من المحادثات لإطلاع هذا الفريق على رؤية الإدارة الأميركية. هل يمكن وفق ذلك نسيان زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى بيروت عام 2006 ولقائها الرئيس فؤاد السنيورة، ومن ثم فريق من 14 آذار في مقر السفارة؟ علماً أن وزير الخارجية جون كيري جاء إلى بيروت عام 2014 فلم يلتق أياً منهم، ولو أنه كان يحرص في مناسبة ذكرى 14 آذار على توجيه رسائل تحية للمناسبة. وعلى رغم ذلك ظل ديبلوماسيون وموفدون من الخارجية الأميركية، ومنهم جيفيري فيلتمان ودايفيد ولش ولورنس سيلفرمان على صلة بشخصيات من فريق 14 آذار.
هذا الزمن ولّى فعلياً، لأن الأميركيين تراجعوا في نقاط كثيرة عن دعم هذا الفريق وساهموا في إضعافه، وتخلوا عنه في مفاصل عدة، كما ساهمت بعض شخصيات هذا الفريق وحساباتها الخاصة في إحداث شرخ كبير. فالفريق الذي كان يؤيده التوجه الأميركي، لم يعد موجوداً بالمعنى السياسي للكلمة. جاء هيل ليتحدث بعد لقائه الحريري وكأن عقارب الساعة توقفت فعلياً عند 2005، في حين أن الحريري الذي التقاه هيل هو غيره الذي ورث تركة الحريري الأب. هو رئيس الحكومة المكلف بتسوية رئاسية باركها حزب الله، وهو الذي يتشارك مع فريق 8 آذار، حكومته الأولى في عهد الرئيس ميشال عون، وهو الذي قام أيضاً بربط نزاع مع الحزب في ملفات كانت عالقة منذ عام 2005.
الحلفاء الذين جاء يدعمهم هيل ويشد من عزيمتهم تفرّقوا
والحلفاء الذين جاء يدعمهم هيل ويشد من عزيمتهم في مرحلة إعادة رسم سياسة أميركية في المنطقة، تفرقوا. بعضهم بفعل الانتخابات التي جعلت منهم حلفاء خصومهم السابقين، وبعضهم انسحب من الحياة السياسية، وبعضهم الآخر يتفرج، والبعض كالقوات اللبنانية صار أيضاً شريكاً في السلطة والحكومة والحكم. يقول وليد جنبلاط: «لم يبق من هذا الفريق سوى فارس سعيد»، وسعيد الوحيد الباقي من «جمهورية 14 آذار»، يكتب عنها ولا يمل، غارقاً في طبيعة قرطبا واللقلوق وثلوجهما، ليس هو المقصود طبعاً باستنهاض الأميركيين حلفاءهم في لبنان. حتى العشاء الذي كان يقام في منزل النائبة السابقة نايلة معوض كان واجهة للقاء أميركي مع فريق 14 آذار، لكن عنوانه تغير هذه المرة.
يريد الأميركيون العودة إلى بيروت بعدما غابوا عنها لسنوات، عدا عنوانين رئيسين، الأمن والقطاع المصرفي، وغضوا النظر عن التسوية الرئاسية، وأيدوا مجيء الحريري رئيساً للحكومة. ويريدون اليوم استنهاض فريق افتراضي، ويتحدثون معه عن سوريا والجيش والحدود والمصارف، وكل هذا الفريق ليس في السلطة. أما حلفاء واشنطن الفعليون فهم في قلب السلطة وشركاء فيها مع خصوم الأميركيين.