لم يتوقّف التنافس على السلطة بين الأحزاب المسيحيّة يوماً، لكنّه بقي مضبوطاً تحت عنوان الثوابت الوطنية والخطّ التاريخي، في وقت شكّلت رئاسة الجمهورية الهدف الذي يسعى كلّ سياسي ماروني للوصول إليه بصرف النظر عن الأحزاب والتيارات السياسية المتخاصمة.
كرّر رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» النائب سامي الجميل أكثر من مرّة عبارة «نريد رئيس جمهورية غير تابع لمحاور إقليمية، ومن غير الممكن وصول مرشح إيران الأول أو مرشح السعودية الأول الى سدّة الرئاسة». قد يكون هذا الكلام طبيعياً لحزب الكتائب الذي سعى تاريخياً الى حياد لبنان وإبعاده من المحاور الإقليمية ووقف التقاتل الداخلي نتيجة صراعات المنطقة.
لكن مَن يتعمّق في كلام الجميل، يرى فيه إشارة واضحة وغمزاً من قناة حلفائه في «14 آذار» وعلى رأسهم مرشّحها الى الإنتخابات الرئاسيّة، رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، نظراً الى علاقته المميَّزة مع المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج العربي ووقوفه مع المحور العربي في وجه المحور الإيراني- السوري.
يتصوّر المرءُ أنّ العلاقة بين حزبَي الكتائب و«القوات» إنتقلت الى مرحلة جديدة من الصراع على رغم محاولات التهدئة. ففي السابق، أخذ النائب سامي الجميّل المبادرة، وزار معراب بعد تأزّم الوضع بين الحزبَين الحليفين، وحاول أن يضع حدّاً لبعض «الولدنات» على مواقع التواصل الإجتماعي، والتنافس على الأرض والشعبية لأنهما يأكلان من «الصحن نفسه».
لكنّ كلام سامي الأخير وضع الصراع مع «القوات» في خانة الصراع الإيديولوجي، وحوّل النظرة الى دور لبنان في المنطقة، مع قوله «إننا لا نوافق على أن يكون المسيحيون جزءاً من صراع المنطقة، فنحن مع حياد لبنان»، مع العلم أنّ اتهامَه «التيار الوطني الحرّ» بأنه جزء من المحور الإيراني ليس جديداً.
تعتبر «القوات» أنّ العلاقات مع العالمين العربي والدولي أساسيّة لحفظ لبنان وصونه، وتصوير «القوات» على أنها تابعة لدولة عربية هو حرف للواقع، فلا يمكن للبنان أن يصمد لولا الشرعية والمظلتين العربية والدولية، لأنّ الخروج عن هاتين الشرعيتين يضع لبنان في حضن القوى التي تريد السيطرة عليه، ولعلّ أبرزها إيران والنظام السوري، فيُصبح لقمة سائغة في فمها.
خاض حزب الكتائب صراعاً إيديولوجياً تاريخياً مع الحزب «السوري القومي الإجتماعي» والحزب الشيوعي والأحزاب اليسارية دفاعاً عن فكرة حياد لبنان، ووقف الى جانب الرئيس كميل شمعون في ثورة 1958 مواجهاً مدّ الرئيس المصري جمال عبد الناصر وحلفائه الداخليين، ومحاولة إبتلاع لبنان تحت عناوين وحدوية وعروبية، وفي تلك المرحلة كان الصراع بين مَن يرى لبنان جزءاً من الأمة العربية وبين مَن يريده وطناً نهائياً حيادياً، وكان الكتائب في طليعة الحياديين. لكن في زمننا هذا، لا يمكن للحياد أن يصبح واقعاً في ظلّ سلاح «حزب الله» وذهابه للقتال في الساحات العربية.
قد يكون الجميّل لا يهدف الى خلق إشكال مع «القوات» في هذا الوقت العصيب من تاريخ المسيحيين الذين يفتقدون الى منصبهم الأول في لبنان والشرق، لكنّه بوضعه حزب «القوات» نتيجة تحالفاته الداخلية والعربية في مرتبة تشبه ما كان يحاول فعله الناصريون والقوميون أصحاب الإمتدادات العابرة للحدود، يفتح نقاشاً إيديولوجياً عقائدياً، على رغم أنّ التحالفات الحالية ليست على أساس إيديولوجي، أو صراعاً بين شيوعية ورأسمالية، بل إنها عبارة عن صراع سياسي بين إيران والسعودية ومَن خلفهما، بغطاء مذهبي.
يرى البعض أنّ إنقسام المسيحيين بين «التيار الوطني الحرّ» حليف إيران، و«القوات اللبنانية» حليفة السعودية، هو إنقسام مُخطط ومنظم لحفظ المسيحيين كيف ما دارت بوصلة القوى الإقليمية، والمحكومة حتى الآن بالتوازن المدروس، أما طرح الجميل فينبع من محاولته إحداثَ خرق ما في الساحة المسيحية، مع العلم أنّ العناوين التي يلتقي فيها مع «القوات» حتى الساعة كثيرة ولعلّ أبرزها رفض السلاح غير الشرعي وضرورة قيام دولة قوية وعادلة، وحفظ حقوق المسيحيين وعودتهم القوية الى الدولة.
أما مهاجمة «التيار» و«القوات» معاً فهي استراتيجية جديدة، إذ يجلس مع «التيار» داخل الحكومة ويخاصمه في السياسة وإدارة الدولة، ويختلف حالياً مع «القوات» في النظرة الاستراتيجية إلى دور المسيحيين ولبنان في المنطقة.
في حال هدأت الأحوال وصمّم اللبنانيون فعلاً على حلّ أزمة الحكم، فإنّ مشروع الجميّل، أيْ اللامركزية الموسعة سيكون من أهمّ المشاريع العلمية المطروحة على طاولة المؤتمر التأسيسي، لأنّ اللامركزية باتت مطلباً يتخطى المذاهب والمناطق، وقد أثبتت أزمة النفايات أنها أكثر من مطلب، بل إنها ضرورة، وهذا الأمر لا يختلف مع مطالب بقية الأحزاب المسيحية.
الثابت الوحيد في اللعبة السياسيّة، أنّ للسياسة أحكاماً وضرورات، والعلاقة مع الخارج لا تعني أبداً التبعية، لأنّ المسيحيين اللبنانيين هم مَن ربطوا الشرق بالغرب، وبنوا أفضل العلاقات مع أوروبا ووظّفوها لخدمة لبنان وتطويره، ولم يكونوا يوماً أتباعاً لأحد، بل إرتضوا العيش والصمود حفاظاً على حريتهم.