الدولة استقالت من دورها في قطاع الإيجارات أيضاً
يُشكل العراك الحاصل بين المالكين ومستأجري الأبنية السكنية والمحلات التجارية، إحدى صور الإنهيار الاجتماعي، والتخبط الحاصل في معظم القطاعات منذ اندلاع الازمة. مشهد يدفع ثمنه المواطن، سواء أكان مالكاً أو مستأجراً وفقا لعقود محررة ( أي الجديدة)، أو وفقاً لقانون الايجارات الصادر عام 2014 (الذي نظّم العلاقة بين المالكين والمستأجرين قبل العام 1992). والسبب غياب النصوص القانونية التي تحسم كيفية احتساب بدلات الإيجار( دولار 1500 أو دولار السوق السوداء). وإعتكاف القضاة يمنع تفعيل اللجان القضائية التي تحدد المستفيدين من الصندوق الذي أنشأته الدولة في العام 2017، لدعم غير القادرين على دفع الزيادات التي نص عليها قانون 2014. مع الاشارة إلى أن كل عقود الايجار، التي شملها قانون ايجارات الاملاك السكنية، ستصبح مُحررة في 28 كانون الاول 2023، ما يعني أن تنظيم هذا الملف بات أمراً مُلحاً.
كباش وتسوية
على مقلب العقود الجديدة، الكباش بين المالكين والمستأجرين ليس أقل وطأة. إذ يشرح جواد جابر(صاحب محلات تجارية) المعضلة التي وقع فيها أصحاب المحلات والمستأجرين، جراء التفاوت بسعر صرف الدولار، بالقول لـ»نداء الوطن «أتكل على إيجار محلاتي لكي أعيش. قبل الأزمة أبرمت عقوداً لإيجار محلات، لمدة 5 سنوات بمبلغ مليون ليرة (للمحل الواحد)، وكان يساوي حوالى 650 دولاراً. أما اليوم فالمبلغ لا يساوي أكثر من 22 دولاراً. وخلال العام الماضي لم يسدد لي أحد المستأجرين الإيجار طول العام بسبب تراجع حركة البيع. ولم يكن أمامي خيار سوى إعفائه من كل ديونه لقاء إخلاء المحل، لأن العقد مستمر حتى نهاية 2023. ونتيجة لهذه المعاناة قررت أن يكون الايجار لمدة عام قابل للتجديد وبالدولار الفريش».
على ضفة المستأجرين يلفت حسن نعمة لـ»نداء الوطن»، أن «مالك المحل الذي يستأجره لم يقبل سوى بإبرام عقد إيجار لمدة عام قابل للتجديد. وبمبلغ 400 دولار فريش (في الضاحية الجنوبية)، مع إمكانية زيادة الايجار عند التجديد مرة أخرى». يقول نعمة «في حال تحسن مردود عملي سأبقى وأدفع الزيادة، وإلا فأنا مضطر للإخلاء».
في قصص الشقق السكنية، تقول جنان إبراهيم لـ»نداء الوطن» ، إنها «استأجرت منزلها بمبلغ 400 دولار لمدة 5 سنوات قبل الازمة، والذي كان يساوي 600 ألف ليرة على دولار 1500». وكان الأمر مقبولاً بالنسبة لمدخولها ومدخول زوجها. «وبعد جنون الدولار وإعتراض المالك، توصلت إلى إتفاق معه على تخفيض المبلغ إلى 250 دولاراً فريش حتى نهاية المدة» مع وعد بالتمديد لها».
بالنسبة للإيجارات القديمة الوضع مأسوي على المالكين، سواء للشقق السكنية أو المحلات التجارية. من دون أن يلغي ذلك حقيقة أن هناك مستأجرين قدامى يستحقون المساعدة من صندوق الدعم الذي أنشأته الدولة. ففي نقابة مالكي الابنية والعقارات المؤجرة مئات السندات التي تُظهر بدلات الايجار المنخفضة التي لا يزال يتقاضاها المالكون. والتي لا يتعدى بعضها أحيانا 5 آلاف ليرة، و47 ألف ليرة في الشهر للشقق السكنية، و100 ألف ليرة في الشهر للمحلات التجارية.
ضياع القضاة والمحامين
هذه المعاناة على أرض الواقع، سببها إما غياب النصوص القانونية المنظمة، كما في حالة عقود الايجار المحررة. أو إعتكاف القضاة الذي يقف حجر عثرة أمام حصول مالكي الابنية المؤجرة قبل العام 1992 على حقوقهم. في الحالة الاولى يشرح المحامي بشار فرحات لـ»نداء الوطن» أن أغلب الخلافات التي تحصل بين المالك والمستأجر، حول تقاضي إيجار الشقق بالدولار( 1500 أو سعر السوق)، تنتهي بالتوافق. لأنه ليس هناك اجتهاد واضح في المحاكم حول هذا الموضوع». لافتا إلى أنه «حين تكون مدة عقد الايجار طويلة، تحصل تسوية بين المالك والمستأجر. فهذا الامر من مصلحة الطرفين، بأن يكون جزء من الايجار بالليرة اللبنانية وجزء آخر بالدولار. أو بتخفيض مبلغ الايجار على أن يدفع كاملا بالدولار».
يضيف: «معظم الاشكالات يتم حلها بهذه الطريقة. لكن في حال لم يتمكنوا من الوصول إلى هذه التسوية، يمكن للمستأجر أن يقوم بعملية عرض فعلي وإيداع للمالك لدى كاتب العدل ( إيداع الايجار على دولار 1500 ليرة). وحين يرفض المالك هذا العرض يتم التوجه إلى المحكمة، ويقدم دعوى لإثبات العرض الفعلي والايداع ودعوى أخرى برفضها. وهاتان الدعويان يتم ضمهما، وعندها تنظر المحكمة بهذا الوضع لإصدار الحكم». يوضح فرحات أنه «على أرض الواقع لم يتجرأ أي قاض على إصدار أحكام بهذه القضايا. لأنه يجب الاخذ بالاعتبار حقوق الطرفين. والاحكام التي صدرت بالعرض الفعلي والايداع كانت بين أشخاص طبيعيين والمصارف، وليس بين مستأجر ومالك لأن الاجتهادات لا تزال متضاربة». مشدداً على أنه» لم يتكون لدى القضاء اللبناني إلى الآن فكرة واضحة حول كيفية حل هذا الموضوع . فالضياع يشمل المحامين والقضاة على السواء، ولذلك تذهب الامور نحو التسوية». ويختم: «الحل هو بإصدار مجلس النواب قانوناً للإيجار بهذا الخصوص. لأنه عند انتهاء العقد يمكن للمالك عدم التجديد للمستأجر، عندها يكون العقد جديداً وبشروط جديدة، وبالدولار الفريش».
لا لجان…لا تطبيق للقانون
في ما يتعلق بالنوع الثاني من الايجارات (قبل العام 1992)، وُلد القانون الذي ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر في 1 نيسان 2014. وبموجب المادة الأولى منه، تخضع لأحكامه جميع عقود إيجار العقارات المبنية المعقودة قبل 23/7/1992 . سواء كانت متعلقة بعقود إيجار الأماكن السكنية أو عقود إيجار الأماكن غير السكنية. مع الاشارة إلى أنّه بالنسبة لهذه الفئة الأخيرة من العقود، ولحين نفاذ قانون خاص ينظم علاقة المالك بالمستأجر(تمت دراسته في مجلس النواب وبانتظار إقراره)، أوجب المشرّع تمديدها حتى حزيران 2022.
بالنسبة لإيجار الأماكن السكنية، فإنّ المشرّع قد وضع حداً زمنياً لهذا التمديد (9 سنوات)، تُحرر بعده العقود. لكن خلال هذه المدة، هناك زيادة قانونية على بدلات الإيجار تصل بصورة تدريجية سنوية إلى بدل المثل المقابل. ولكي لا يرهق المستأجرين ذوي الدخل المحدود بهذه الزيادة، وفّر لهم إمكانية الاستفادة من مساهمة مالية في دفع الزيادة (صندوق الدعم) إذا ما توفرت فيهم شروط معينة. ونصّ القانون بأن تحديد بدل المثل يكون على أساس نسبة 5% من القيمة البيعية للمأجور، في حالته القائمة في ما لو كان خالياً. ويتم تحديده رضاءً بالاتفاق بين الفريقين. أو قضاءً من خلال القرار الذي تتخذه اللجنة في حال التناقض بين التقريرين المرفوعين من قبل الخبراء المعينين، من كلٍ من المؤجر والمستأجر لتحديد بدل المثل. مع الاشارة إلى أنّه في حال التحديد الرضائي لبدل المثل، يبقى القرار النهائي للجنة في حال طلب المستأجر منها الحصول على مساهمة مالية من الصندوق. ولما كان من المتوقع أنّ أغلب المستأجرين سيتقدمون للحصول على هذه المساهمة، فإنّ تعيين هذا البدل سيكون في أكثر الأحيان قضائياً.
أما الزيادة التدريجية على بدلات الإيجار، فهي زيادة سنوية محتسبة على أساس بدل المثل، حددتها الفقرة «ب» من المادة 15. وتُقدر بـ15% من قيمة فارق الزيادة، بين البدل المعمول به قبل صدور هذا القانون، وبدل المثل المشار اليه أعلاه. وذلك عن كل سنة من السنوات التمديدية الاربع الاولى، التي تلي تاريخ صدور هذا القانون. و20% من قيمة فارق الزيادة المنوه عنها عن كل من السنتين الخامسة والسادسة من الفترة التمديدية. حتى يبلغ بدل الإيجار في السنة التمديدية السادسة قيمة بدل المثل المشار إليه أنفاً.
المشكلة في تفعيل اللجان القضائية
يشرح نقيب مالكي العقارات والأبنية المُؤجرة، باتريك رزق الله لـ «نداء الوطن»، أن «المشكلة اليوم هي بتفعيل اللجان القضائية. لأن قانون الايجارات نصّ على إنشاء لجان قضائية (24 لجنة) في المناطق، برئاسة قاض وعضوية مندوبين من وزارتي المال والشؤون الاجتماعية، للفصل بين المستأجرين الذين يستفيدون من صندوق الدعم». مشيراً إلى أن «هذه اللجان أُنشئت بمراسيم صدرت في العام 2017، وتقدم المستأجرون بطلبات امامها. لكن هذا الصندوق كي يتمكن من دفع بدلات الايجار عن المستأجر، يجب أن تحسم اللجنة القضائية من هم المستفيدون منه. عندها على المستأجرين الذين لن تطالهم المساعدة أن يدفعوا الزيادات المتراكمة. لكن، حتى المستأجرون الميسورون يرفضون دفع الزيادات إلا بعد أن تبت اللجان القضائية بطلباتهم. والقضاة حاليا في الاعتكاف».
يضيف: «بعض المستأجرين يحتالون على القانون، متذرعين بتقاعس القضاة عن البت في الطلبات. وكنقابة، زرنا مجلس القضاء الاعلى أكثر من 10 مرات، ووُعدنا بتفعيل اللجان. كما أرسل رئيس الجمهورية قبيل انتهاء ولايته رسالة إلى مجلس القضاء بوجوب تفعيل اللجان. وأصدرت الامانة العامة لمجلس الوزراء كتاباً بهذا الخصوص». مشدداً على أنه «نتيجة هذا الإعتكاف هناك مالكون لا يزالون يتقاضون مبلغ 25 الف ليرة في الشهر، ومالكون لا يمكنهم تأمين ثمن دوائهم ومنهم من يعيش في قبو». يؤكد رزق الله أن «الخسائر كبيرة. هناك منازل أيجارها 5 آلاف ليرة ، في حين أن الدولار بـ 42 الف ليرة. أما العقارات غير السكنية أي المحال التجارية، فوضعها أسوأ. لأن المستأجر يبيع بضائعه بسعر دولار السوق، ويدفع للمالك بسعر دولار 1500 ليرة».
شرفان: الخوف من العنف… فالضغط يولّد الإنفجار
يشرح المستشار القانوني لنقابة مالكي الابنية والعقارات المؤجرة، المحامي شربل شرفان لـ»نداء الوطن»، أنه في 28 / 12/ 2022 ، دخلنا في السنة التاسعة على إقرار وتنفيذ قانون الايجار السكني. وهذه السنة هي الاخيرة لغير المستفيدين من الصندوق. في حين أن المستفيدين من الصندوق يمكنهم الإستفادة من هذا القانون حتى 12 عاماً أي لغاية عام 2026». موضحا أن «صندوق الدعم أنشئ بالفعل حين بدأت الدولة بتخصيص عائدات له. لأنه مرتبط بوزارة المالية مباشرة ويتم تمويله من موازنتها كل عام. ففي العام 2017 تم تخصيص( 30 مليار ليرة). وفي 2018 (100 مليار و138 مليون ليرة). وفي 2019 ( 30 مليار ليرة ) وفي 2020 (30 مليار ليرة). وفي2021 تمّ لحظ في مشروع الموازنة (50 مليار ليرة)، لكنه لم يتم إقرار الموازنة. وفي موازنة 2022 (25 مليار ليرة). كما صدر مرسوم النظام المالي للصندوق في 1/10/ 2019 برقم 5700 . وحين تبدأ اللجان القضائية ببت الطلبات وتحديد من يستحق الدعم، عندها يجب أن يدفع الصندوق».
يضيف: «المشكلة هي أن القضاة معتكفون، وكنقابة تحركنا نحو كل المعنيين. نحن مستعدون لقبول بقاء من يستحق دعم الصندوق في منازلنا حتى العام 2026 ، من دون أي بدل مالي. لكننا مصرون على معرفة من هم الذين لا يحق لهم الاستفادة من الدعم». مبدياً خشيته من أن «تتطور الأمور إلى عنف بين المالكين والمستأجرين، نتيجة الظلم اللاحق بالمالكين. لأن الضغط يولد الانفجار، وعددهم يصل 3000 مالك ومنتسب للنقابة. بينما يبلغ عدد المستأجرين القدامى 64 ألفا، بحسب إحصاء 2017. واليوم باتوا أقل بعدما حصلت إخلاءات، بعد اتفاقات وتسويات أو نتيجة قرارات قضائية».