الزمان: 24 شباط 2022. المكان: أوكرانيا. الحدث: اجتياح روسيا لجارتها الصغرى. أنظار العالم بأسره شاخصة منذ ذلك اليوم على التطورات هناك. كيف لا وأوروبا لم تشهد صراعاً عسكرياً مشابهاً منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. الأنباء المقلقة والصور الموجعة تأتينا دون انقطاع من أرض المعركة وما حولها. خلف الخبر بالدرجة الأولى جنود مجهولون-معلومون متواجدون في عين العاصفة بمواجهة كل أنواع الأخطار.
إنهم المراسلون الميدانيون. منهم من تواصلت معهم «نداء الوطن» بعدما انتقلوا من لبنان إلى مناطق الخطر ليحدّثونا أكثر ويخبرونا عما قد لا يرد أحياناً في رسائلهم الإخبارية. ومنهم تعذّر الاتصال بهم نتيجة ضغط العمل والظروف المحيطة بهم، على سبيل المثال لا الحصر مراسلة قناة العربية – الحدث، كريستيان بيسري، التي سبقت زملاءها، منذ شهر ونيّف تقريباً، إلى الميدان، تاريخ ظهور بوادر غزو روسي لأوكرانيا. بيسري التي كانت لها تجربة خاصة مع القنوات العربية، كما المحلية، لا سيما بعد مغادرتها قناة MTV للإنضمام إلى «العربية» ثم «سكاي نيوز» فـ»الحدث». منذ الثالث من شباط الماضي وهي تنقل التحضيرات الميدانية، كتدرّب النساء الأوكرانيات على حمل السلاح، كما كان لها ظهور لافت في نقل الصورة لحظة اختراق الروس لخاركيف والمعارك التي دارت في محيط المنطقة.
العمل الصحافي والإنساني
ألان ضرغام، مراسل قناة الـMTV الذي التصق اسمه بمدينة طرابلس، حيث غطّى فعاليات «ثورة تشرين» من داخلها لمدة ثلاثة أشهر متتالية، يحدّثنا عن تجربته المختلفة تماماً في أوكرانيا. لكنها، كما يقول، تجربة لا تقلّ «إنسانية» عن سواها: «من الصعب جداً مقارنة الحرب المفتوحة التي تدور رحاها بين روسيا وأوكرانيا بأحداث لبنان في خلال الثورة، لكنّ الإنسانية في التعاطي هي نفسها». لم يدرك ضرغام في البداية أنّ بإمكانه تغطية أحداث مشابهة، لكن التجربة على أرض الواقع تُظهّر مقدرة المراسل ومدى حبّه لعمله. فإضافة إلى تعزيز الخبرة وصقل موهبة التغطية الميدانية، تلعب التجارب المماثلة دوراً أساسياً على الصعيد الشخصي أيضاً: «لقد حفظت الخريطة الأوكرانية بكافة تفاصيلها عن ظهر قلب، كما تعرّفت على مناطق جديدة لم أكن أعرفها سابقاً». وهو تواجد في الصفوف الأمامية في إقليم «دونباس»، المنطقة الحدودية الشرقية التي يشكّل المتحدثون بالروسية غالبية سكانها، وسط عصف القصف والقذائف. لكن رغم ذلك، فـ»المخاطرة يجب أن تقترن بالمعرفة والدراية وليس الجهل بخلفيات الحدث»، من وجهة نظره. فقد تعرّض لدى وصوله إلى أوكرانيا لمواقف محرجة، حيث أن بشرته السمراء وضعته أحياناً في موضع المشتبه به كـ»مخبر روسي». لم يسلم من الشتم والدفع بعنف من قبل بعض الأوكرانيين، كما أنه جرى توقيفه من قِبَل السلطات هناك للتأكد من أوراقه الثبوتية. ثم تأتي عقبة أخرى يجب تخطّيها إبان التغطية الخارجية وهي حاجز اللغة. فالشعب الأوكراني بأكثريته لا يتقن الإنكليزية: «تارة تتم الاستعانة بمترجم، وتارة أخرى يكون الاتّكال على مساعدة الناس في تسهيل التواصل». أما عن حرية ممارسة العمل الصحافي، فيشير ضرغام إلى التأقلم مع واقع وجود مناطق أمنية يُمنع الصحافيون من الاقتراب منها – وهو ما ينطبق في لبنان كما في سائر البلدان.
تتبّع الحدث ومطاردة التطورات شغل المراسل الشاغل. فمادة الحروب لا تنضب لناحية توالي الأحداث وتسارعها، ومصادر المعلومات متنوّعة – منها الاتصالات الهاتفية وقراءة المصادر ومنها المستقى من «الميدان» مباشرة. لكن دور المراسل جوجلتها وانتقاء الأدقّ والأكثر أمانة منها. فـ»الموضوعية»، يضيف ضرغام، «هي ركيزة أساسية في عملي الصحافي، كما لا يمكنني إلا أن أتعاطف مع الإنسان لأي جهة انتمى. الروح هي روح والإنسان في العمق لا هوية له. إذ بالرغم من تعاطف الرأي العام مع الشعب الأوكراني، إلا أنني قمت أيضاً بنقل المعاناة من المقلب الآخر حيث ثمة ضحايا يسقطون أيضاً في دونباس والتي تتعرض للقصف منذ سنوات عدّة من قبل الجيش الأوكراني».
بحسب علماء النفس، غالباً ما يكون المراسلون الميدانيون عرضة للتوتر والاكتئاب نتيجة تغطيتهم لأحداث قاسية. في هذا السياق، يرى ضرغام أن «ما يختبره المراسل أثناء التغطية تنتج عنه ترسّبات تتكدّس داخله ولا تظهر نتائجها إلا بعد إنجاز المهمة. فهو ينتقل حينها إلى حالة نفسية مختلفة تماماً تتطلّب الهدوء والترفيه لإزالة الصور العالقة في الذهن قدر المستطاع، والتي من شأنها إعاقة الانطلاق في مهمة جديدة بخلاف ذلك».
ماذا عن الوضع الإنساني على الأرض؟ يجيب ضرغام: «تعيش أوكرانيا الأزمة للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، فشعبها لا يدرك كيفية التعاطي مع الحروب كما أنه لم يعتد على هذه المشاهد. إنه منهار بالكامل». ويضيف أنه يحاول تسخير معارفه حيث أمكن لناحية إنقاذ اللبنانيين العالقين في المناطق الساخنة، على غرار ما حصل مع كل من طارق عون وعائلته في خاركيف وطوني مراد وعائلته في ماريوبول. ويختم مشيراً إلى أمرين طُبعا في ذهنه: «الأول استهداف عائلة بأكملها سقطت أرضاً أمام أعيني الأسبوع الماضي، والثاني شبح الجوع والبرد الذي يفتك بعائلات كثيرة».
تتعدّد الحروب والمأساة واحدة
بدوره، ليست المرّة الأولى التي يقوم فيها مراسل قناة الجديد، رامزالقاضي، بالتغطية التلفزيونية في مناطق حروب ونزاعات. فخبرته وتجربته في حربي سوريا وليبيا شجّعتاه على إعادة الكرّة في أوكرانيا. التجربة تختلف كثيراً بين التغطية داخل لبنان وخارجه. ويقول: «رغم أن الموضوعية أساس في عملنا الصحافي، إلا أنه من الصعب جداً ألا ننحاز في بلدنا لجهة ما أو لرأي معيّن، ما يتطلّب منا جهداً أكبر للفصل بين مشاعرنا الإنسانية وصدقيتنا الصحافية. وهو أمر لا نعاني منه خارجياً». بالنسبة للقاضي، لا تختلف مناطق النزاع خلال الحروب عن بعضها البعض، فالصور تصبح متشابهة: القتلى، المصابون، الدماء، الخوف، الهلع، الصراخ، دويّ القصف… كلها مشاهد تعيد نفسها باختلاف الزمان والمكان. تغطية الأحداث على الحدود لا تقلّ أهمية عن تغطيتها من داخل العاصمة. فالبطولة ليست في التواجد وسط أصوات القذائف وحسب، إنما لكل زاوية من زوايا التغطية سياقها ومخاطرها ومشقاتها.
احترام الصحافي، والكلام أيضاً للقاضي، يختلف من بلد إلى آخر، تبعاً للتسهيلات الميدانية التي تُمنح له ولتباين ثقافة البلد التي تنعكس على طريقة تعاطي أهله مع الأسئلة الموجّهة إليهم. وعلى المستوى الشخصي، هناك ما يتعلّمه المراسل من حيث طريقة التفاعل مع الثقافات المختلفة، ما يترك أثراً نفسياً راسخاً: «مشاهد النساء والأطفال العاجزين عن المشي، من شدّة ما أنهكهم الخوف والجوع والبرد، يذكّرنا بمعاناتنا في لبنان. ضجيج المدافع يعيدنا إلى صدى صوت انفجار مرفأ بيروت. فوجوه البشر على اختلافها في حالات مماثلة إنما ترسم صورة إنسانية واحدة».
السعي خلف المعلومة والتواصل الدائم مع النازحين على الحدود كما مع جهات مختلفة داخل أوكرانيا بهدف إعداد التقارير عمل لا ينقطع على مدار الساعة. والحال أن الأمور تصبح أكثر تعقيداً خلال التغطية الخارجية خاصة حين تكون ضمن إمكانات محدودة: «نعاني في تنقّلاتنا ولناحية فهم اللغة وإيجاد الفنادق، فالمؤسسة الإعلامية تتكبد حالياً أعباء إضافية… حتى الأكل والنوم عالسريع».
المفوضية العليا للأمم المتحدة تعتبر مهنة الصحافة أخطر المهن في العالم. في هذا الإطار، يشير القاضي إلى أن عامل الخطورة موجود في كل تغطية إعلامية، لكن اتخاذ الاجراءات التي تضمن سلامة المراسل وفريقه ضرورية: «ما من قضية تستحق أن نخسر حياتنا من أجلها، هدفنا أن نعود سالمين لنغطّي أحداثاً أخرى».
مهمة حدودية شاقة
من ناحيته، هناك الكثير من الأحداث الميدانية التي قام إدمون ساسين بتغطيتها عبر قناة الـLBCI، منها في إقليم ناغورنو كارباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، وفي العراق وسوريا، كما تلك المرتبطة بأزمة اللاجئين بين لبنان وتركيا وأوروبا وأخرى على الحدود اللبنانية-السورية وفي الداخل اللبناني. وقد تواجد مؤخراً على الحدود الأوكرانية-البولندية لمدة ثمانية أيام لنقل معاناة اللاجئين، لا سيما أن اللبناني معني إلى حدّ كبير بالأزمة ويحتاج إلى إيصال صوته لذويه كما للجهات الرسمية المختصّة.
عن تجربته الأخيرة وإن كان ثمة اختلاف في مشهد التغطية الميدانية بين لبنان وأوكرانيا، يخبرنا ساسين: «خلال العمل الصحافي في الخارج، كما في لبنان، هناك حدود تنهينا عن الاقتراب أكثر إلى بعض الأماكن. فقد مُنعنا مثلاً من نقل صورة النازحين – والتي تُبيّن بعمق حجم المأساة – من داخل المعابر الحدودية بين بولندا وأوكرانيا». الناس العاديون، بالرغم من حالتهم المزرية، أظهروا تعاوناً ودّياً من حيث تفاعلهم الإيجابي مع أسئلة الصحافيين وشرح معاناتهم. أما على الجانب البولندي، فقد كانت حرية العمل شبه مطلقة، باستثناء النقطة الحدودية التي مُنع الفريق من التصوير فيها.
إختار ساسين خلال مهمته الإضاءة على موضوع اللاجئين بشكل عام، لكن رسالته الأساسية تركّزت حول معاناة اللبنانيين لا سيما الطلاب منهم، في محاولة لحث المسؤولين على مساعدتهم وإجلائهم والقيام بواجباتهم تجاههم. وهذا ما حصل فعلاً مع اللبنانيين العالقين في بولندا بعد الرحلة الشاقة التي عايشوها: «توجّهنا إلى مراكز إقامتهم، تحدّثنا إليهم وأوصلنا صوتهم، كما أضأنا على مأساتهم، ما ساهم في تحريك قضيّتهم وإعادتهم إلى ديارهم بشكل آمن وسريع». الجهد الأكبر، يضيف ساسين، تمثّل بالسعي لإيجاد مادة جديدة أو زاوية مختلفة تُعرض على المشاهد ضمن تقارير نشرات الأخبار المتتالية: «أحياناً نخرج بالرسالة من القطار، إذ لسنا نحن من نتحكّم بمسار الأمور. في إحدى الليالي، مثلاً، اضطررنا للنوم في السيارة في منطقة حدودية نائية بسبب عدم تمكّننا من تأمين حجز فندقي».
قد تتوقف الأعمال العسكرية في أوكرانيا في وقت قريب وقد لا تتوقف. لكن الأكيد أن حدثاً آخر أو أكثر سيطلّ برأسه في أي وقت، ما يستدعي حزم المراسلين حقائبهم من جديد والانطلاق في مهام أخرى – بكثير من الشغف والإقدام والتوق إلى كشف النقاب عن كل مستجد. مع تمنياتنا بالسلامة للجميع وعلى أمل دائم بأن تنتصر لغة السلام على آلة الحرب.