إنه تموضع جديد في السياسة ذلك الذي يميز الموقف الجديد لحزب «الكتائب» في اطار المحاور السياسية اللبنانية. لكنه تموضع لا يعني انعتاق الحزب من اطاره السياسي في قوى «14 آذار» التي يجمعه بها نحو عقد من التحالف الوثيق، بل هو يبحث عن اطار وطني يعزز انفتاحه على الآخر، وهو يعني هنا الفريق الآخر في «8 آذار»، ورأس حربته «حزب الله». هو تموضع تفرضه المتغيرات الاقليمية والزلزال القائم في المنطقة منذ نحو أربعة أعوام، والتي اسقطت انظمة واطاحت رؤساء.. وتكاد تودي ببعض الاوطان!
من الطبيعي ان لا يكون انفتاح الحزب بعيدا عن معركة رئاسية مضمرة يخوضها رئيسه أمين الجميل، لكن من المؤكد ان الخطاب البراغماتي للاخير، بعلاقاته الجديدة ورؤيته المتغيرة وانفتاحه الجديد، لا يطابق الخطاب الأكثر تشددا الذي يقدمه المرشح المعلن لقوى «14 آذار»، سمير جعجع، ولو ان الاخير اكتسب جرعة اضافية من الثقة بالنفس وبمسعاه الرئاسي، عبر زيارته الاخيرة الى السعودية.
يقارب «الكتائب» الواقع الجديد في المنطقة بكثير من الدقة، جعلته، حسب قيادي فيه، مدعوا الى التفكير جديا في بناء علاقات جديدة في لبنان، انطلاقا مما يحدث في المنطقة من متغيرات. هي ليست دعوة الى الوسطية، بل مقاربة جديدة تتخطى تموضع كل من «8 و14» آذار بعد ان نشأتا قبل نحو عشرة اعوام في ظل أحداث مضى عليها الزمن، اطاحتها احداث جديدة قلبت المشهد الاقليمي رأسا على عقب.
من هنا، فإن «الكتائب» يدعو الى اعادة تقييم مسيرتي «8 و14» آذار لابتداع علاقات جديدة تحصن الوحدة الوطنية، من جهة، وتزيل هذه الانقسامات العمودية، من جهة ثانية، «منعا لسقوط لبنان»، حسب القيادي في الحزب.
وجاء انفتاح «الكتائب» على «حزب الله» في هذا الاطار، ومثله العلاقة الثابتة أخيرا مع الرئيس نبيه بري. وهو امر بدا جليا في الزيارة الاخيرة التي قام بها الجميل الى الجنوب، و»الاستقبال المدروس» من قبل «حزب الله» الذي وجه بذلك رسالة ذات دلالة الى الجميل يمكن للأخير ان يوظفها في معركته الرئاسية بوجه سمير جعجع.
على ان «الكتائب» يشير الى رسالة «حزب الله» بوصفها «شهادة مشتركة» دلت على انفتاح غير مسبوق من قبل «حزب الله» وحركة «أمل» باتجاه «الكتائب»، خاصة عبر اعتبار الكتائبيين ان خطاب الجميل لم يتغير، «وهو استمر على ذلك الخطاب في زيارته الجنوبية».
يشير «الكتائب» الى تلقيه رسالة «حزب الله»، «الساعي الى ان يكون مكونا اساسيا في الوطن، كما ان اعضاءه هم مكون ميثاقي في لبنان». هذا الامر يعني ان «حزب الله» بات «يتحسس ضرورة الانسجام اكثر واكثر مع الواقع اللبناني الميثاقي عبر نسج علاقات سياسية اكثر عمقا مع الآخر، كما انه مؤشر مهم، ليس على المشاركة في بناء الوطن فقط، بل على بناء الدولة».
في ظل المؤشر الجديد، لا يمانع الكتائبيون في استثمار زيارة الجميل الى الجنوب في اطار المعركة الرئاسية، لكن هؤلاء يرفضون ربط الزيارة مباشرة بهذا الاستحقاق، ذلك ان حظوظ الجميل «ليست مرتبطة بالزيارة التي لا تحدد شخصية المرشح الرئاسي، بل ان هذا الامر تحدده شخصية المرشح ومسيرته الوطنية».
على ان الامر لا يعني ان تحفظات «الكتائب» زالت، اذ يستمر الحزب معارضا «لاستمرارية السلاح من دون ان يتم استيعابه»، كما ان الحزب يرفض تدخل «حزب الله» في سوريا في ظل دعوة «الكتائب» الى الحياد.. لكن التموضع السياسي لا يمنع الحوار والتواصل الضروريين. وثمة تشديد كتائبي على ان الانفتاح المتبادل مع «حزب الله» لن يكون على حساب العلاقة «العميقة مع الحلفاء الطبيعيين في 14 آذار».
بالنسبة الى الكتائبيين، وبعيدا عن انتقاد ترشح جعجع الذي لا يزال الترشيح الرسمي الوحيد في «14 آذار»، فإن الجميل «هو الرجل الانسب لتولي الرئاسة، وهو لا يزال يملك أوراقا عديدة أهمها قدرته على الحوار مع الجميع في الداخل والخارج».
ويبدو «الكتائب» مطمئنا، خاصة لناحية التيار الرئيس في الطائفة السنية، أي «المستقبل»، وهو ينظر بإيجابية الى حوار الاخير مع «حزب الله»، اذ من شأنه تخفيف الاحتقان. أما لناحية مقاربة الحوار لملف الرئاسة، فإن «الكتائب» يستبعد تهميش المكون المسيحي، ويضع الحوار في اطاره الثنائي. ويأتي اطمئنان الحزب لكون خيار الرئيس «جماعي، ولا بد للمسيحيين ان تكون لهم الكلمة الاساسية».
يريد الكتائبيون اعتبار الرئاسة شأنا داخليا، لكنهم يقرّون بواقع ان المشهد الاقليمي، السوري تحديدا، يرخي بثقله على مصير الرئاسة. بمعنى آخر، «إن سوريا التي ستولد من رحم الاحداث سترسم طبيعة المشهد اللبناني الداخلي»، وبالتحديد، تبدو التطورات منوطة بالاتفاق الدولي الاقليمي الذي سيحصل على طبيعة الحل. وباتت خريطة الحل في سوريا معروفة، استنادا الى القيادي الكتائبي: أولا، إجماع على ان الحل في سوريا لن يكون سوى سياسي. ثانيا، خلق «كانتونات آمنة» من خلال الهدنات المحلية التي يعمل عليها الموفد الدولي دوميستورا. ثالثا، الاولوية ستكون لمحاربة الارهاب، لا للثورة أو النظام. رابعا، يجب ان يأخذ الحل بالاعتبار المكونات الطائفية على غرار ما حصل في العراق.