ثمة وقائع ثابتة لا يمكن إنكارها في موضوع دروز سوريا وانتشارهم والمأساة التي أصابتهم أخيراً.
ثابتة أولى، أن دروز جبل السمّاق في إدلب لا تأثير عسكرياً لهم ولا أهمية جيواستراتيجية لمناطق انتشارهم، بدليل أن قراهم سقطت في أيدي إرهابيي «القاعدة» منذ مدة، من دون ضجة تذكر.
ثابتة ثانية، وعلى عكس الأولى، أنه من المتعارف عليه أن دروز السويداء يتمتعون بالخاصتين السابقتين معاً.
فثقلهم الديمغرافي وبالتالي العسكري ملحوظ. وانتشارهم الجغرافي مفصلي، في منطقة بين الأردن ومدخل دمشق وحوران. هكذا يمكن لنظرة سريعة على أي خريطة سورية، أن تظهر الموقع العسكري والاستراتيجي البارز جداً لمنطقة السويداء. فكيف في ظل موازين القوى العسكرية والميدانية المستمرة منذ أربعة أعوام ونيف في سوريا. فمن يسيطر على منطقة السويداء، أو يستميل أهلها وسكانها، يحقق أهدافاً ميدانية عدة، من دون إطلاق رصاصة واحدة. لذلك حاول النظام السوري طيلة حربه مع أعدائه الحفاظ على علاقة ممتازة مع دروز السويداء. حتى أنه عمل دوماً على تقديم «الإغراءات» لهم. أعطاهم امتياز التجنيد الإقليمي. فتح لهم معبراً دولياً جديداً مع الأردن، مقابل إقفال معبر الرمثا في درعا. وأوحى لهم بأن مرحلة ما بعد نهاية الحرب السورية، ستكون مرحلة الازدهار الاستثنائي في مناطقهم، ومرحلة النمو غير المسبوق والاستثمارات الكبرى في بقعتهم بالذات.
وفي المقابل، يمكن للخريطة نفسها أن تظهر أن سيطرة أعداء النظام على منطقة السويداء، يمكن أن تكمل حصار دمشق، وأن تعزل سلطاتها نهائياً عن الحدود الأردنية، وأن تشدد من ضغط هؤلاء على دور حزب الله في الجنوب السوري، وأخيراً أن تستكمل شريطاً حدودياً متواصلاً على طول التماس السوري مع اسرائيل والأردن، البلدين المرتبطين أصلاً باتفاق سلام وبعلاقات أكثر من سلام، قبل الاتفاق وبعده.
ثابتة ثالثة في السياق نفسه، أن دروز جبل السماق، عاشوا في قلب اللوزة وفي قلب منطقة «القاعدة»، شهوراً طويلة من دون أي مشكلة تذكر. حتى أنه قبل مدة كثر الكلام عن شرطين إضافيين فرضهما إرهابيو «القاعدة» على هؤلاء، وهما حف الشاربين وتزويج البنات من الإرهابيين، كدليل على تأكيد مبايعة هؤلاء لأمراء «القاعدة» واندماجهم ضمن «دين الحق». ورغم ذلك لم يسجل أي حادث يذكر. حتى الجولاني نفسه، زعيم إرهابيي «القاعدة» في المشرق، كان قد أعلن في حديثه الأخير إلى الشاشة القطرية، أن التسوية قد تمت مع أبناء جبل السماق، وأنه قد أرسل «دعاة» من عنده لتثبيت هؤلاء في دينهم الجديد القديم.
الثابتة الرابعة، أن الرجل الذي نفذ مذبحة قلب اللوزة، أبو عبد الرحمن التونسي، ليس عنصراً غير منضبط. بل هو «أمير منطقة جبل السماق» لدى إرهابيي «القاعدة». وطبعاً ليس سورياً، كما غالبية إرهابيي تلك الجماعة. وبالتالي فمن المستبعد كلياً أن يكون ما أقدم عليه ضمن هامش «التجاوزات» التي تحصل في أي حرب، أو التي تعتري «نصاعة» أي ثورة.
الثابتة الخامسة، أن مبادرة إرهابيي «القاعدة» إلى الإعراب عن أسفهم حيال ما حصل، شكلت خطوة غير مسبوقة من قبل هؤلاء. ذلك أن خناجر إرهابهم كانت قد أسالت دماء بريئة أكثر وأغزر من قبل. من دون أن يعقب فظائعهم وإجرامهم أي سلوك من هذا النوع. وهو ما يثبت أكثر فأكثر أن لا تفصيل واحداً في مذبحة قلب اللوزة كان متروكاً للصدفة أو العفوية أو الارتجال. بل جاءت كل حلقات المجزرة لتتكامل ضمن سلسلة واحدة، لم تلبث أن اكتملت بردود الفعل حيالها.
الثابتة السادسة تمثلت بردود الفعل تلك بالذات. إذ للمرة الأولى تهب حملة متناغمة منسجمة منسقة من اسرائيل إلى أميركا، ومن بعض الخليج إلى بعض الإقليم، حيال المذبحة التي وقعت. علماً أن فظاعة ما حصل حيال السكان الأبرياء المدنيين العزل، تبرر أكثر من ذلك بكثير. لكن مفارقتين اثنتين لازمتا تلك الحملة. الأولى أنها من نوع لم يعقب سلسلة المجازر الأخرى التي ارتكبها الإرهابيون. لا ضد الإيزيديين. ولا ضد المسيحيين. فعلى سبيل المثال لا يزال حتى اللحظة مصير 243 أشورياً من الخابور مجهولاً. والأرجح أنه مصير كتب بالسكاكين نفسها. ولا من يسأل. علماً أن هذا القياس لا يورد من باب المزايدة أو المفاضلة بين دم ودم، أو بين ضحية وضحية. لكن من باب الإضاءة أكثر على خلفية الحملة الأخيرة لا غير. أما المفارقة الثانية التي كشفتها ردود الفعل المنظمة نفسها، أنها لم تستهدف الجلاد، ولم تبحث في كيفية ضربه أو ردعه أو مساءلته أو معاقبته. بل حصرت بحثها في كيفية العمل «الواقعي» و»العقلاني»، من أجل عدم إيقاع ضحايا جديدة. حتى مع بعض التجهيل للمجرم، وتغفيل السفاح.
ثوابت جلية، إذا ما ربطت ببعضها، تظهر خطاً بيانياً لخطة واضحة. هدفها لا دروز إدلب، ولا أسلمة بضعة آلاف من الموحدين. بل هدفها السويداء منطقة وناساً. لا بل كل هدفها خلق مناخ نفسي وسياسي وإعلامي وواقعي، ينقل منطقة السويداء في الجغرافيا والديمغرافيا، من ضفة إلى أخرى ضمن الصراع الدائر في سوريا. نقلة يراد لها أن تمهّد لمعركة دمشق من جهة، وأن تساعد مخطط الدول الإقليمية الداعمة للجماعات الإرهابية في سوريا من جهة أخرى، وأن تريح اسرائيل على كل الجهات. نقلة وخطة متروكة احتمالاتهما لجهة التحقق أو الإجهاض، لتطورات المرحلة المقبلة. لكن عنوانهما يظل من نوع لا التمثيل في الواقع بجثامين الشهداء الدروز وحسب، بل أيضاً التمثيل – بمعنى التضليل ــــ في الإعلام والسياسة، بالدم الدرزي البريء.