Site icon IMLebanon

أنا مندهش!

 

 

ذات يوم، قبل أربعين عاماً على وجه التقريب، وبعد “حفل” قصف عنيف ومدمّر من قوات الردع العربية الشقيقة على ما كان يُسمى “المناطق الشرقية”، اصطحبت صحافياً طليانياً بجولة مسائية سيراً على أقدامنا، وأذكر تماماً أننا كنا نمشي بحذر في شارع أديب اسحق كي لا نتعثر، وفجأة كسر صمت الليل ووقع أقدامنا “جعير” سيارتين تتسابقان بجنون في الشارع الضيق كادت إحداهما “تقش” المراسل الطلياني. ردّ فعله كان ضحكة مجلجلة تلاها تعليق: “أنا مندهش من قدرة اللبناني على العيش والمرح. هذان المتسابقان المغامران يعشقان الحياة هنا”. تعشينا في مطعم صغير محصّن بأكياس رمل. شربنا نبيذاً رخيصاً وسط جمع من العشاق والخارجين بوقت مستقطع بين جولتي جنون. بدا المراسل سعيداً ومتفائلاً تلك الأمسية، ومندهشاً بطبيعة الحال.

 

أسعدتني يومئذٍ النظرة الغربية المندهشة حيال الظواهر اللبنانية الفريدة.

 

ولا يزال لبنان الحبيب، بحكمه النبيه والعوني والنجيب، يثير في الأجانب الدهشة. وآخر المندهشين أوليفيه دي شوتر. مبعوث أممي آخر يبدي دهشته بعد زيارة إستطلاعية دامت 12 يوماً: “أنا مندهش جداً، للحقيقة إن لبنان ليس دولة منهارة بعد، لكنه على شفير الانهيار، وحكومته تخذل شعبها… إنهم يعيشون في عالم خيالي. وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة إلى مستقبل البلاد” هذا انطباع آخر مبعوث.

 

ودي شوتر “المندهش” هو مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان. وسيأتي بعده، قبل نهاية العهد، مقرر الأمم المتحدة المعني بالمجاعة وفقر الدم وفقدان الإحساس البشري، ليدلي بـ “دهشته”.

 

ما أدهشني في زيارة شوتر، صورة جمعته مع وزير الخارجية والمغتربين و”المشحّرين” عبدالله بو حبيب بدا فيها الضيف واجماً وشديد التأثر فيما ظهرت على وجه المضيف كل مؤشرات السعادة والنهوض والأمل المستدام.

 

كل ممثلي المنظمات الدولية، المتمتعين بطيب الإقامة بين ظهرانينا، وكل الموفدين عبّروا، كلّ على طريقته، عن دهشته حيال انعدام مسؤولية السياسيين القابضين على السلطة. يان كوبيتش، وقبل مغادرته لبنان، بهدلهم بالجملة والمفرّق. جان إيف لودريان إستنكر مراراً “تقاعس” الطبقة السياسية عن التصدي لخطر “انهيار” البلاد وفي نيسان الفائت منح المسؤولين أياماً “لتغيير سلوكياتهم”. ألا يعرف لودريان أن ذيل الكلب يبقى أعوج ولو وضعوه في القالب 40 سنة؟.

 

كانت الدهشة في ما مضى من سالف الأيام مرادفة للجمال، لبوارق الأمل، للإكتشافات الجميلة، للحب، للوجود. اليوم أندهش متى أسمع أن نجيباً يفضّل “كيف ما كنت بحبّك” على “بجنونك بحبك” وساعة أقرأ أن نبيه بري سيبتكر مخرجاً لانعقاد مجلس الوزراء. وعندما تخبرني العصفورة أن السيد الرئيس يتابع الإتصالات أندهش أيضاً!