يستمر الحراك الشعبي ويتوالى فصولاً، تارة في الساحات وطوراً في الوزارات، يمثل أحياناً نبض الشارع ويخضع حيناً آخر تحت سلطة الأحزاب ورهينة أجنداتها، إلا أن الثابت في الواقع اللبناني اليوم أن الشارع بات في واد والطبقة السياسية، بغض النظر عمّا إذا كانت مشاركة في الحكم أم لا، في وادٍ آخر.. حيث تراكمت الحقوق المدنية المهدورة وتفاقم العجز الرسمي عن تحقيقها وفقدت المصداقية في النية الجادة لإيجاد الحلول، وباتت المصالح الخاصة والصفقات تحتل أعلى سلم الأولويات عند المسؤولين، من دون خجل في ظل ضائقة اقتصادية هم السبب الأساسي بها نتيجة انقساماتهم العامودية وتمترسهم وراء مطالبهم الشخصية، ومن دون أي خوف من محاسبة أو مساءلة رسمية أو حتى شعبية. وبالتالي، بات من الصعب ردم الهوّة بين الرسمي والشعبي، وتخطت الأزمة سقف المطالبة العادية الى أزمة ثقة بين المواطن والدولة، حيث يضع اليد عليها مجموعة من المتواطئين مهما حاول البعض التنصل من المسؤولية أو حتى خلع ثوب الشراكة في الحكم كلما فتحت دفاتر الفساد والهدر، خوفاً من الانكشاف المفضوح للتناقض الواضح بين الشعارات والممارسة على الأرض.
وفي ظل المشهد القاتم، يبقى البحث عن مخرج جدي وواقعي أفضل من جلد النفس والبكاء على أطلال دولة لن تبنى الا بتعاون مختلف الجهات الشعبية والرسمية تحت سقف القانون وضمن الحفاظ الكامل على مؤسساتها وهيبتها.
أما الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل فتبدأ من مجلس النواب حيث لا بدّ من إعادة فتح أبوابه لانتخاب رئيس للجمهورية، وبالتالي إعادة الحوار الجدّي والفاعل بين الكتل السياسية، والتي هي واقع لا يمكن التخلص منه من دون الوقوع في الفوضى المطلقة إلا في صناديق الاقتراع، ومع هيئات المجتمع المدني لإقرار قانون انتخابات جديد يحاكي تطلعات الشعب ويخرج السلطة من دوّامة «سلبطة» الفاسدين، ويضع السلطات الثلاث على سكة الإنتاجية، بغض النظر عمن يوجد في سدّة الحكم، حيث الوطن ومؤسسات الدولة فوق الشخصنة وأكبر من أن يعرقلها متضرر من هنا أو متسلق من هناك.
إنها ليست أحلاماً بعيدة المنال، بل هي نسخة ملبننة عن نماذج ديمقراطية موجودة في العالم، تختلف الأحزاب فيها حتى الموت وتنقسم إلى أبعد الحدود، ولكنها تعلمت أن تتعايش مع بعضها البعض، وأن تخدم مواطنيها والمصلحة العليا قبل أي اعتبار، وتتوالى على السلطة دون أن تتناهشها، حيث تتم المبارزات الحقيقية في ابتداع السياسات الأفضل شعبياً.
ويحاول كل فريق كسب الشارع عبر رشوته بالخطط الاقتصادية والتقديمات المعيشية الفضلى.. نعم عكس ما تدار به السياسة في لبنان، مهد الديمقراطية في الشرق الأوسط ، حيث يفرض الزعيم رؤيته، المستندة إلى مصالحه الشخصية، وينتزع اللقمة من فم اللبنانيين، عِلماً أنه يتمتع بحصانة إما رسمية أو قائمة على الجهل الشعبي أو غالباً على غياب هيكلية المحاسبة الجدّية.
إلا أن هدم الهيكل على رؤوس اللبنانيين بحجة إحداث التغيير المنشود سيُوقع لبنان في الفوضى غير البناءة والخارجة عن سيطرة الجميع… وبالتالي باتت المسؤولية الواقعة على هيئات المجتمع المدني التي تدير الحراك الشعبي مضاعفة للخروج من النفق، حيث الضغط ضمن ما يجيزه الدستور من حرية تعبير هو حق مشروع، ولا بدّ من إحكام السيطرة عليه لتفويت الفرصة على مَن ينتظرها لرمي الوطن الصغير في أتون الفوضى المحيطة به، مع إبقاء قنوات التواصل مع المعنيين بحل الأزمات المعيشية من كهرباء ونفايات وماء، حتى تطرح هذه الملفات بشفافية إجهاضاً للصفقات واستثماراً للخبرات الشبابية الموجودة ضمن هذه التجمعات.
إن مشهد الفوضى السورية لا يزال يدمي قلوبنا عند كل طفل تزهق العبثية واليأس روحه، ولا يزال اللبنانيون يدفعون ثمن هذه الحرب الدموية غالياً من أعداد لاجئين فوق طاقة التحمّل ومحاولات مستمرة لجرّ البلاد والعباد في المحظور، فهل ينتصر الوعي ولو لمرة بما أن الحراك شعبي وفرصة التغيير واردة؟