القياصرة القدامى والجدد يتنافسون على المواقع الأساسية
جمهورية الفراغ في صلب المعاناة
ولعبة الرئاسة الاولى تقترب وتبتعد غادر الرئيس الشهيد رفيق الحريري الكرملين، في طقس ربيعي خال من الهواء البارد، وبدت موسكو مدينة هادئة، تودع الصيف على أبواب شهر تشرين الأول، وقال للرئيس الروسي فلاديمير بوتين: لست ذاهباً الى مطار العاصمة الروسية، بل أنا في طريقي الى زيارة القيصر الروحي، بعد وداعي لالقيصر الروسي.
ضحك الرئيس الشهيد وهو يصغي الى القيصر الروحي، يقول له انه سيلتقي بعد ساعات القيصر الخاف، اي وزير الدفاع الأميركي القادم الى موسكو للإجتماع الى رئيس وزراء لبنان.
بعد ذلك غاب القيصر الروسي وراء اسوار الكرملين، وتوجه القيصر اللبناني، الى بطريركية موسكو وكل روسيا، وقد استعادت زعامتها، بعد افول العصر السوفياتي.
كان مع الزعيم اللبناني طائرته االخاصة، واتصل بالوزير محمد يوسف بيضون في الفندق وطلب اليه اعداد عشاء، للوفد الضخم الذي رافقه من العاصمة اللبنانية الى العاصمة الروسية، وعدم مغادرة أحد الفندق الى المطار، لانه طلب من الرياض طائرة ثانية لموافاته الى موسكو.
بعد سنوات عاد الرئيس سعد الحريري الى بيروت، بعد انقطاع قسري عنها، وحضر الى العاصمة اللبنانية للمشاركة في ذكرى رحيل والده.
ماذا حصل بين رحيل القائد، وافول نجمه الساطع في الأجواء اللبنانية، ومجيء القائد الشاب لمتابعة رسالة الشهيد الغائب.
في يوم الذكرى ظهرت مفارقتان كبريان: الاولى تكمن في استعادة المشهدية الباهرة لحضور زعيم تيار المستقبل الى بيروت، وتظهر الثانية عبر دعوة القائد زعماء ١٤ آذار للصعود الى المنصة، ليؤكد انه محاط بنجوم السياسة اللبنانية، او بما يسمى: قادة الطائف او زعماء المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، لحماية الصيغة اللبنانية في وجه ترددات طارئة بين ٨ و١٤ آذار، تزعم كل فئة بامتلاكها القدرة على اجتذاب قسم من الصيغة من عنوانها الكبير، وحدة لبنان التي تكمن من خلال استمرار المناصفة.
ومع ذلك تحاول كل طائفة ان تسطو على المناصفة من خلال وزرائها في السلطة. ويقول العارفون بالاسرار، ان اتفاق الطائف ضمن لكل طائفة حقوقها في وظائف الفئة الاولى، لكن هذه الحقوق ذهبت هدراً تباعاً، اما عندما فرغت بعض الوظائف في الفئة الاولى، وبفعل وقوف التعيينات، استولى الوزراء عليها، بفعل ترقية موظفي الفئة الثالثة للحلول مكان من شغرت وظائفهم وهم أرفع منهم في الوظيفة.
وهكذا اصبحت الجمهورية تشكو من الفراغ، ولا مجال لاصلاح الخطأ المشكو منه، او لتحقيق التوازن الوظيفي المعهود.
منذ عشر سنوات، أخذ المديرون العامون يحلون مكان الوزير، واضحت الإدارة فالته وكل مدير يفعل في الترقية، ما يحلو له ويريد.
ظلت الأمور سارية بهدوء، الى ان أصبح الفراغ في رئاسة الجمهورية عنوان الخطأ الوظيفي، وأضحى كل شيء في السلطة رهناً لمشيئة الوزير او المدير العام، بعد الشغور في رئاسة الجمهورية.
وهكذا، فان الفراغ في الرئاسة الأولى، على مدى نحو عامين جعل الفئات جميعاً، تطالب بملئه من أجل الاستقرار الوظيفي. وهذا لم يكن موجوداً، لا قبل الطائف ولا بعده. الأمر الذي جعل الجميع يطرحون موضوع الفيدرالية او الكونفيدرالية خصوصاً بعد ضمور موضوع الصراع المسيحي – الإسلامي، على المواقع المذهبية في السلطة، وانتقال هذا الصراع منذ بضعة أعوام، الى الصراع السني – الشيعي على المواقع الكبرى، واستفحال حاجة كل طائفة، الى نيل الوظائف الكبرى في الدولة.
كان الوزير السابق والنائب الراحل كاظم الخليل يقول ان ذهاب التوازن الوطني بين المسيحيين والمسلمين، جعل السباق على الوظائف، ينتقل الى كل طائفة على حدة، واضحى المسيحيون يحتاجون الى مكافحة الفيدرالية من أجل مناصرة الكفاية. وعندما ذهب دوري كنائب للرئيس كميل شمعون في حزب الوطنيين الاحرار، ذهبت الثروة العلمانية في اطار الثورة الطائفية في البلاد.
التقسيم ينهي التوحيد
بعد الحديث عن الفيدرالية كحل او كاحدى الحلول للحرب الدائرة في سوريا، وفي بعض الدول العربية، وصولاً الى لبنان، برز الحديث عن حقبة تقسيم لبنان في الفترة الواقعة بين العامين ١٨٤٢ و١٩٥٨. ويُروى في هذا المجال، انه بعد سقوط الإمارة الشهابية، عقد مصطفى باشا اجتماعاً لاعيان البلاد في ١٦ كانون الثاني ١٨٤٢، اعلن خلاله تعيين عمر باشا النمساوي وهو مسيحي من أصل كرواتي حاكماً عثمانياً على جبل لبنان، خلفاً للأمير اللبناني المخلوع.
وقد رحب الدروز بالحاكم الجديد، ورأوا فيه نهاية للسيطرة المارونية على الجبل، وعارضه المسيحيون معارضة قوية، لانه انهى سلطتهم المباشرة والغى استقلال الجبل وحرمه من امتيازاته.
كان أول معارضي النظام الجديد البطريرك الماروني يوسف حبيش الذي راح يعمل جاهداً لإعادة الأمير بشير الثاني الى الحكم، بينما كان همّ الحاكم الجديد عمر باشا النمساوي القضاء نهائياً على فكرة عودة الامراء الشهابيين الى السلطة، فسعى الى ارضاء الامراء الإقطاعيين، من العائلات المنافسة للشهابيين مثل آل الدحداح وخطار وآل عمار وارسلان وابي اللمع.
رفض الأمير حيدر ابي اللمع ان يقبل تعيينه مستشاراً لدى عمر باشا، لأن البطريرك حبيش يعارض سياسته. فلجأ الحاكم العثماني، الى أمير لمعي اخر هو بشير أحمد ابي اللمع الذي بات رجل العثمانيين الأول بين النصارى الذين كانوا لا يزالون بأكثريتهم الساحقة مؤيدين للشهابيين في تلك الحقبة.
وبهدف إظهار ان حكمه، يتمتع بشعبية في البلاد، عمد عمر باشا الى توقيع عرائض تأييد له، شجعها العثمانيون ليظهروا للدول الأوروبية ان حكمهم المباشر لجبل لبنان يحظى بتأييد عارم في البلاد. لكن النصارى، وبتحريض من رجال الدين للترهيب والترغيب لحملهم على ذلك، دفعوا البطريرك لاتخاذ موقف حاسم من هذا الأمر، فندد بتوقيع العرائض، وقال علانية انها تنتزع بالرشوة والعنف، فاعلن قناصل الدول الأوروبية، ان العرائض لا تمثل الرأي العام اللبناني تمثيلاً صحيحاً.
وشهدت تلك الحقبة، تنافساً شديداً بين الارساليات الأجنبية في جبل لبنان، ويمكن القول ان تلك البعثات التبشيرية والمدارس انتشرت في ارجاء الجبل.
كان الغطاء الديني والثقافي لنشر النهج السياسي للدول التي تنتمي اليها في المنطقة. وهكذا منع البطريرك الماروني رعاياه من ارسال اولادهم الى المدارس الانجيلية، وجمعت نسخ الكتاب المقدس التي وزعها المرسلون البروتستانت، على فلاحي الشوف، واحرقت في ساحة دير القمر.
ولم يكن موقف الارثوذكس اقل عداء للبروتستانت، من موقف الموارنة، فكان لهذا العداء الديني الاثر الاكبر، على العلاقة بين نصارى لبنان والبريطانيين.
بعد ١٨٤١ بات همّ العثمانيين الحدّ من النفوذ الفرنسي في جبل لبنان. فتعاونوا مع البريطانيين لإثارة شكوك الدروز حول نوايا فرنسا. وبثّوا الشائعات ان فرنسا تقوم بتسليح النصارى لمهاجمة الدروز. وأن القوات الفرنسية تقف في البحر استعدادا لمساندتهم عندما تقتضي الحاجة.
وفي ٢٤ ايلول عقد خمسة من زعماء الدروز اجتماعاً مع البريطانيين على متن بارجة حربية في ميناء صيدا. وأقسموا أن تقف طائفتهم صفاً واحداً مع السياسة الإنكليزية… ووعدهم الإنكليز بمساندتهم والدفاع عنهم وزوّدوهم بكمية من الأسلحة والذخائر. وتبرّعوا بتعليم عدد من أبناء مشايخ الدروز في معاهد بريطانيا.
وهكذا اتّسع الشرخ الدرزي – المسيحي فارتمى الموارنة في أحضان فرنسا، وشرّع الدروز أبواب مناطقهم أمام الإرساليات البروتستنتية لغزو المناطق المسيحية في الشوف وعاليه.
وسرعان ما انضمّ القنصل البريطاني الى سائر القناصل الأوروبيين في الاحتجاج على العرائض. لكن عمر باشا لم يعر اعتراضه أي اهتمام. كذلك تجاهله المبعوث الخاص للباب العالي سليم بك في تقرير قرأه أمام قناصل الدول الاوروبية في الاستانة في أوائل آب ١٨٤٢ امتدح فيه المحبة والولاء اللذين اظهرهما اللبنانيون بجميع فئاتهم نحو الحكومة الرشيدة التي يرأسها عمر باشا. فامتعض القناصل من هذا التقرير وطعنوا بصحته. ورفضوا رغبة الباب العالي بالحفاظ على الحكم العثماني المباشر للبنان. وطالبوا بنظام حكم جديد. وأيّد القنصل البريطاني مطلب سائر القناصل خلافاً لما كان يتوقّعه العثمانيون. فساءت الأحوال في لبنان نتيجة تضارب الموقف الدولي مع الموقف العثماني، وانعكست سياسة عمر باشا القائمة على زرع التفرقة بين الموارنة والدروز سلباً عليه فانقلب الدروز ضده، وتمرّد بعضهم على قراراته… فجابههم بالقوة.
في ٦ نيسان ١٨٤٢ اعتقل عمر باشا عدداً من زعماء الدروز بينهم نعمان وسعيد جنبلاط، وأحمد وأمين ارسلان، فزاد اعتقالهم النفور وأجّج النفوس. فقطع الدروز طريق بيت الدين. ووجهوا بياناً الى البطريرك الماروني اقترحوا فيه عقد ميثاق ماروني – درزي. ووعدوه بالموافقة على عودة الشهابيين الى الحكم والتعويض عن اضرار ١٨٤١. وشجع الفرنسيون الموارنة على المصالحة. لكن الشرخ الدرزي – الماروني كان بلغ حداً يصعب الرجوع عنه. وعجز الفريقان عن التوحّد لمواجهة عدوّ مشترك فوضع كل طرف شروطاً رفضها الآخر، وتنبّه العثمانيون لخطر التحالف الدرزي الماروني فسعوا لفرطه من خلال استرضاء زعماء الموارنة واطلاق سراح المعتقلين منهم وإعادة الاراضي المصادرة وتقديم الهدايا… فقرر الدروز أن ينطلقوا بالثورة وحدهم.
قاد شبلي العريان العصيان، وراح يقطع الطرق بين بيروت ودمشق…
رفض الروم الارثوذكس، بتأثير كهنتهم والقنصل الروسي، ان يشكلوا جبهة واحدة مع الموارنة… حتى أن بعضهم مال لمؤازرة الدروز. وأظهر الموارنة كالعادة حالة من التفسّخ وعدم التنسيق فيما بينهم فكان كل زعيم يتصرف على هواه.
ولعب العثمانيون دوراً خطيراً. فتمركز وجيه باشا على طريق عاليه وكان يراقب المعارك ويتدخّل لتغليب الدفة الدرزية اذا شعر أنها تميل الى الانهزام فينصب الكمائن ويمنع وصول الإمدادات المارونية الى الشوف. وحين زحف موارنة جزين الى المختارة بقيادة أبو سمرا غانم وأحرقوا في طريقهم ١٤ قرية درزية تصدّى لهم الجنود الأتراك ومنعوهم من دخول البلدة. وما جرى في المختارة حصل أيضاً في المتن…
إستمرّت المعارك في غير منطقة حتى أواخر أيار حيث تمكن الدروز بمساندة العثمانيين أن يدحروا النصارى في رأس المتن فنهبوا القرى وأحرقوها قرية بعد قرية وقتلوا جميع من فيها.
في ٢ حزيران دعى والي صيدا العثماني وجيه باشا النصارى والدروز الى اجتماع في بيروت في محاولة لوقف القتال بضغط قناصل الدول الأوروبية. فراح القنصل البريطاني الكولونيل روز يحرّض الدروز بينما أنصرف قنصل فرنسا أوبجين بوجاد الى تحريض المسيحيين… فلم يتوصّل الاجتماع الى نتيجة فعلية تنهي القتال، مما استدعى حضور وزير الخارجية العثمانية شكيب أفندي الى لبنان لمعالجة الوضع السياسي الذي هو سبب القتال. فأكد أن لا تعديل لنظام القائمقاميتين. وأبلغ الدول الخمس الكبرى بريطانيا فرنسا النمسا روسيا وبروسيا أن البلاد ستوضع تحت السلطة العثمانية المباشرة حتى التوصل الى تسوية.
اي تسوية بعد انهيار حكم القياصرة في النظام، والعودة الى تداول فكرة الفيدرالية في النظام المجهول المصير.
هل يعود لبنان الجديد الى الصراع القديم الذي نشأ في العام ١٨٤٥، والذي عادت معه الصراعات العائلية، والصراعات الاقطاعية بين الفلاحين والمشايخ.
بلغ الصراع اشده بوفاة البطريرك يوسف حبيش، وعجز خلفه البطريرك يوسف الخازن عن القيام بدوره، وبعد وفاة قائمقام النصارى الامير حيدر أبي اللمع، تفاقم الشرخ بين فريق كان يطالب بتأييد ابن شقيق الامير حيدر بشير عساف أبي اللمع، وفريق آخر يناصر نسيبه بشير أحمد، بعد تدخل القنصل البريطاني الذي كان خاضعاً لاوامر السلطة العثمانية.
كذلك انقسم الدروز في تلك الفترة الى فريقين، واحد يناصر نعمان جنبلاط، وآخر يؤيد سعيد جنبلاط الذي تصاعد نجمه بين الدروز مما أقلق القنصل الفرنسي، لان سعيد جنبلاط كان صديقا للبريطانيين.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي، شكل وليد جنبلاط بعد استشهاد والده كمال جنبلاط، خلال الحرب اللبنانية العام ١٩٧٥ ادارته المدنية، ليبدأ الصراع الطائفي الجديد، ولعبت الوصاية السورية ادواراً مختلفة في اذكاء هذا الصراع بين الطوائف. وهذا ما يحصده اللبنانيون اليوم، وهم غارقون في أزمة الشغور الرئاسي، حيث تحاول كل طائفة ممارسة الدور المناسب لطموحاتها السياسية. –