«تجارة» نشأت وتوسّعت في غياب القانون
من الصعب أن ترسي، في فترة قياسية، النظام في أمكنة اعتاد أبناؤها عدم سؤالهم عن المخالفات التي يرتكبونها. صحيح أن وزيرة الداخلية والبلديات ريا الحسن «ساندت» السلطات المحلية، أخيراً، بإصدارها تعميماً ملزماً بنزع «المخالفات من الطرقات العامة والشوارع»، لكن، من الجهة المقابلة، ثمة أمر واقع نشأ على غفلة من القانون، ويفيض ــــ بكمّ المخالفات الحاصلة ــــ عن قدرة القامعين.
الأربعاء الماضي، في حملة نزع المخالفات على الطرقات التي قامت بها بلديتا بيروت والغبيري، اكتشف سكان أحد الأحياء أن هناك طريقاً «بأمّه وأبيه» يجنّبهم اللف والدوران للوصول إلى حيهم، كان مقفلاً بحكم «الأمر الواقع» لـ«كيوسك» لبيع القهوة اختار صاحبه إقامته وسط الطريق!
هذا نموذج لطرقات كثيرة أقفلها «الأمر الواقع» تدريجاً، مذ صار لبنان «جمهورية إكسبرسّات»، وصار الـ«إكسبرس» ظاهرة لا يكاد يخلو شارع أو طريق، سواء كان فرعياً أو رئيسياً، من واحد أو أكثر منها. حتى بات يصعب إحصاء أعدادها بعدما استحالت وسيلة عيش الفقراء الذين نموا على غفلة من القانون وممن «يسهرون» على تنفيذه.
لا عدد تقريبياً لـ«الإكسبرسات» في بيروت الكبرى وضواحيها، ناهيك عن بقية المدن والبلدات والقرى والدساكر. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، بدأت هذه الأخيرة تجد مكاناً لها في الشوارع. البداية كانت خجولة، لكنها ــــ وكما كل المهن التي يبتكرها الهامشيون ــــ أصبحت ظاهرة للباحثين مثلهم عن لقمة عيشٍ صار تحصيلها صعباً. وهي، بحسب من يمتهنونها، «تجارة مربحة» لأن «شريك المي ما بيخسر». ففي آخر اليوم، ثمة غلّة تتراوح بين «75 و100 ألف ليرة» تعادل ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور.
هذه «التجارة» نشأت وتوسّعت وكبرت في ظل غياب القانون. أخيراً، صار اسمها «مخالفة». اليوم، صدر القرار بضبط الظاهرة، مع التعميم الذي أصدرته أخيراً وزيرة الداخلية والبلديات ريا الحسن، لـ«ضبط ظاهرة انتشار الأكشاك والبسطات والكيوسكات والخيم (…) نظراً إلى ما تسبّبه هذه الظاهرة من إعاقة لحركة مرور السيارات والتسبب بحوادث سيرٍ على الأوتوسترادات والطرقات العامة».
«الأشغال» مسؤولة عن مخالفات الطرق الرئيسية والبلديات تعطي أذونات عشوائية
انتهى البيان الرسمي، ولكن من أين يبدأ «الضبط»؟
سابقاً، قامت حملات كثيرة ــــ لا يزال بعضها قائماً ــــ على «نيّة» قمع المخالفات، لكنها لم تؤت «أكلها». فكلما نزعت مخالفة، قامت مكانها أخرى. هذا ما صار يعرفه المخالفون وقامعو المخالفات جيداً. ولذلك أسباب كثيرة، على رأسها «الفوضى القانونية»، على ما يقول محافظ جبل لبنان القاضي محمد مكاوي. ففي وقت يفرض فيه القانون ضرورة حيازة ترخيص لإقامة أي منشأة لغرض تجاري، مهما كان حجمها، قامت الـ«كيوسكات» بأذونات «مفرطعة» ممن «يمونون» على الجهات المسؤولة عن إعطاء التراخيص (البلدية داخلياً ووزارة الأشغال العامة للطرق الرئيسية)، أو بـ«البلطجة». في الشق الأوّل، يتحدّث مكاوي عن أذونات صدرت عن البلديات، وأخرى عن وزارة الداخلية والبلديات وثالثة عن المحافظين، ورابعة ــــ شفهية ــــ من قوى أمنية أو رئيس بلدية أو محافظ أو… وهذه أزمة شائكة. أما في الشق الثاني، فالبلطجة «ثبّتت وجود»، على ما يقول رئيس بلدية برج البراجنة عاطف منصور. تحت ذلك العنوان، يمكن الحديث عن «مدعومين من أحزاب وعشائر ومسؤولين أمنيين»، وهذا يفيض عن قدرة المتضررين والقامعين. ناهيك عن أن بعض المساحات العامة باتت إقطاعيات لأبناء بعض رؤساء البلديات أو الفاعلين فيها. إذ يحوز هؤلاء «تراخيص الكيوسكات» ويؤجرونها مقابل دفعات شهرية.
في المسار السليم، يفترض أن تسير الآلية وفق الآتي: «يتقدم طالب الترخيص بطلب لدى البلدية إن كان ينوي الإنشاء في نطاق صلاحياتها، ويتضمن من جملة أمور المواصفات الفنية للكيوسك من طول وعرض ومسافة التراجع وغيرها من الشروط، على أن تأخذ البلدية القرار بتأجيره أو لا، مع الإشارة إلى أن الترخيص لا يكون أبدياً ويعاد تجديده كل عام»، يقول نائب رئيس بلدية البرج زهير جلول. أما في حال كان على الطريق الرئيسية، فتلك تقع ضمن صلاحيات وزارة الأشغال العامة والنقل. ومن المفيد التذكير هنا بقرارات كثيرة صدرت في ما يخص آلية الترخيص، أحدها صادر عن وزارة الداخلية والبلديات في تسعينيات القرن الماضي. كما أن ثمة قانوناً يصحّ الركون إليه هنا، هو قانون البناء الذي يفرض على «كل منشأ يستخدمه أحدهم لغرضٍ تجاري أو منفعة، وسواء كان متراً أو ألف متر أن يخضع لقانون البناء، أي يخضع للتراخيص العادية، ولا استثناءات هنا»، بحسب أحد المهندسين في دائرة التنظيم المدني. هذا ما يقوله القانون، أما ما يقوله الواقع، فهو أن «ما من أحد يستوفي الشروط، والجميع مخالف».
يقال الكثير عن «رفع الغطاء» عن المخالفين، ولكن عند الجدّ «سنواجه بالقول بأنهم ليسوا مسؤولين عما يحدث معنا على الأرض»، يقول مكاوي. يعرف الأخير أن الطريق طويل وشائك، وإن كان ليس وحده من يعرف ذلك. الكل يدرك صعوبة أن تُرسي، في فترة قياسية، قيم النظام في أمكنة اعتاد أبناؤها عدم سؤالهم عن المخالفة التي يرتكبونها. هنا، في حالة «الكيوسكات» مثلاً، وبدل السؤال عن أعداد المخالف منها، يصبح من الضروري عكس السؤال ليصبح عن أعداد من يستوفون الشروط. بالوجهة القانونية «ما حدا مستوفي الشروط»، يقول رئيس شرطة اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، النقيب علي فران. يتحدث عن «خروقات» لأبسط الشروط، وهو «ألا تؤثر على العابرين، سواء سيراً على الأقدام أو في السيارة».
لكن، لا مكان للقانون عندما يصبح الحديث عن أمر واقع عليك أن تنظّمه بالتي هي أحسن. ثمة وجهتان، القانونية التي تقول «إن المخالف يجب أن يحاسب وأن تزال مخالفته». والوجهة الثانية هي الواقع. وهنا، الطامة الكبرى، إذ «كيف يمكن أن تتعاطى مع من بنى حياته على هامش غياب الدولة؟»، يسأل جلّول. يحاول توصيف الواقع، وإن كان لا يحمّل أحداً بعينه المسؤولية، لا الدولة وسلطاتها المحلية ولا المواطن. فـ«هناك دولة لا تؤمن لمواطنيها أبسط ما يحتاجون إليه. تضعهم في العراء، وفي المقابل مواطنون وجدوا أنفسهم متروكين، فلجأوا إلى حلول يعرفون أنها على عكس القانون». في ظل هذا الواقع، يحدث أن تذهب الحلول نحو «الروتشة» بالتي هي أحسن. فيما يذهب آخرون إلى تحميل البلديات البحث عن بدائل عبر استغلال أملاكها الخاصة للاستثمار في هذا القطاع. ولكن هذا «دونه مشاكل. فما هي الضوابط والشروط، ولمن أرخّص؟»، يسأل جلول. وهي أسئلة تبقى بلا إجابات في بلدٍ قائمٍ على حملات تُنظّم وتعاميم تُصدر، ولكن من دون مفاعيل تذكر.