تجمعات ثم تظاهرات ملأت ساحة رياض الصلح منذ ما يقارب الأسبوع، بدأت شعبية مطلبية بامتياز يحرّكها يأس اللبنانيين من قدرة الدولة على معالجة الملفات الحياتية الملحة، وعلى رأسها ملف النفايات التي اجتاحت لبنان، مع كل ما تحمل من تلوث وأمراض.. ثم ما لبث أن انحرف مسار هذه التظاهرات، بعدما تسللت الأيدي السياسية الخفيّة لتعبث بأهدافها وشعاراتها، وزرعت المندسين ليحولوها من سلمية حضارية إلى تخريبية، ففلَتَ الزعران يكسّرون ويحرقون ويُخرّبون، وتحول المطلب من النفايات إلى إسقاط النظام، ثم توجهت السهام إلى الحكومة تحديداً، وهي آخر المؤسسات الشرعية الممثلة للدولة اللبنانية، والقادرة، لولا تعطيل فريق من الداخل، على إبقاء عجلة العمل المؤسساتي تدور ولو بالحد الأدنى، لتسيير الملفات الحياتية الملحة، والحفاظ على ما تبقى من مفهوم الدولة.
ولكن ماذا بعد إسقاط الحكومة؟ مَن يضمن بقاء الجمهورية في ظل الشغور الرئاسي والتعطيل التشريعي؟ وبالتالي مَن هي الجهة القادرة على إقرار قانون انتخاب جديد ليُصار إلى مجلس نواب جديد، يَنتخب رئيساً للجمهورية؟
لقد نادت الشعارات بحكم العسكر، ولكن تجربة الستينيات لم تكن مشجعة، وإذا كانت الحكومات المدنية لم تنصف اللبنانيين، فهل سيضمن نظام العسكر الديمقراطية المنقوصة والشراكة المفقودة؟ وبادئ ذي بدء هل المطلوب إقحام الجيش، الذي يحافظ على وحدته رغم الظروف، في زواريب الخلافات الضيّقة؟
لا يختلف اثنان في لبنان على ضرورة وضع حدّ لاستباحة السياسيين لمقدرات الدولة وعقول الناس ومصالحهم، شرط ألا يكون على حساب الأمن والاستقرار ضماناً لاستمرار الجمهورية. وإذا كانت نية المحاسبة جدية، وليست ممراً لغايات في نفس يعقوب، فليُصَر إلى انتخاب رئيس للجمهورية، فيتم الانتقال تلقائياً إلى مرحلة محاسبة النواب داخل صناديق الاقتراع، وهي أرقى وجوه الديمقراطية، وأسلمها لوحدة الوطن وسلامة مؤسساته. أما الخوض في تجربة ربيع عربي جديد في لبنان، فقد أثبتت التجارب المحيطة بنا في الأنظمة التي حوّلت نعمة التنوع الطائفي إلى نقمة، كما حصل في لبنان، أن داء الطائفية كان أقوى من دواء الرؤية الموحدة لغد أفضل، فكانت الفوضى غير البناءة هي النتيجة الطبيعية لغياب الدولة وعدم قدرة الثوار على الإمساك بالشارع.
فهل لبنان قادر على تجاوز قطوع مماثل اليوم، حيث تحيط به التحديات الأمنية من كل حدب وصوب، والانقسام الداخلي بالغ أوجّه، حيث يحاول كل طرف تحقيق أكبر عدد من المكاسب الممكنة، بغض النظر عن الأثمان التي تدفع من حساب الاستقرار الأمني والاقتصادي على حد سواء، أم أن الأجندة المرسومة للمنطقة لم تستثن الوطن الصغير، ولم تشفع له سنوات العذاب الطويلة التي عاناها من حروب أهلية وانقسام داخلي، فدقت ساعة التحرّك على الساحة اللبنانية ليكمل اللوحة الإقليمية المشتعلة؟
على أمل أن يستيقظ السياسيون من نشوة انتصاراتهم الزائفة، حتى لا يكون الوطن الخاسر الأكبر، مهما بلغت أرباح فريق من هنا أو هناك، لتمر هذه المرحلة الانتقالية بأقل أضرار ممكنة ونصل جميعاً إلى نقطة الجهوزية لرسم خارطة الجمهورية التي يتمناها كل لبناني!