IMLebanon

جمهورية بلا رئيس وتزدهر في بيت المحامي وقائدها لا يزال مجهولاً

جمهورية بلا رئيس وتزدهر في بيت المحامي وقائدها لا يزال مجهولاً

قصة المعارضة بين الحلفاء بين النقد والمراوحة والمغامرة

والديمقراطية تواجه امتحان الصمود وخطر الإنهيار

إمتشق الحاكم لويس بو فرح شعار الليونزية، في حفل تكريم الضمير الغائب في بيت المحامي والحاضر على الوجوه، وفي النفوس.

وهكذا، اراد محام شاب لامع، جمع النخبة حول شعار نحن نخدم وهو يودع سنة حافلة بالعطاءات والنجاحات في لبنان، الاردن والعراق، لتخليد ذكرى رحيل ضمير لبنان العميد ريمون اده، بحضور رفيق العمر ورئيس الاحتفالية المحامي جان حوّاط. بعد مرور خمسة عشر عاماً على غيابه عن الحضور السياسي بين عاصمة الابجدية جبيل، والعاصمة اللبنانية المترامية الأطراف، وبين المنفى الإختياري الباريسي والحضور اللبناني في عاصمة لبنان السياسي.

لماذا اختار لويس بو فرح الضمير ليكون عنواناً لجمهورية لم تولد بعد، وملعبا طلقاً لاحلام المؤمنين بجمهورية مضى أكثر من عام عليها وهي لا تزال تبحث عن رئيس يقودها بحكمة وحنكة وبحيثية شعبية…

ولماذا أراد لويس بو فرح، ان يجمع تحت سقف بيت المحامي، وهو محام عريق مجموعة ممن تعاون معهم العميد او اختلف معهم احياناً. من أجل جمهورية التنوع السياسي للتأكيد على أن لبنان يحييه الاختلاف ويُميته التحجر انه بيته وماضيه وحاضره والضمير.

قبل قرابة نصف قرن، كان محام لامع في الشمالا اسمه رامز خازن اطال الله في عمره، استضافته الشهرة، واختارته بلدية زغرتا – اهدن، ليكون رئيس مجلسها البلدي. وفي اطلالته الاولى محاضراً، في عاصمة الشمال، اطلق مبادرة حق الدفاع عن النفس، واستعان بشيشرون ليفلسف حق الدفاع عن النفس. ووقف الى جانبه نائبه في رئاسة المجلس البلدي الفرد بولس المكاري، الا ان المحاضرة ذهبت الى العقول جميعاً، خصوصاً الزعيم الزغرتاوي سليمان فرنجيه، الذي بادر بعد فوزه برئاسة الجمهورية اللبنانية، الى اختيار رامز خازن مديراً عاماً لوزارة الإعلام. ويومئذ كرمه الطرابلسيون والزغرتاويون خصوصاً، كما لم يماثله تكريم او تحاصره الحفاوة كما قال صديقان كبيران من رفاق عمره المرحوم قبلان فريد انطون الرئيس السابق لديوان وزارة الإعلام، والاداري الكبير وجيه سعاده الذي اختاره رئيس الجمهورية من ادارة المصارف الى تعيينه رئيساً لمجلس ادارة كازينو لبنان، وهو كما يصفه نسيبه رئيس اللجنة النيابية المالية ابراهيم كنعان بالانسان الفذ، في التنظيم، بعد النجاح الهائل الذي حققه لكازينو لبنان وجعل شركة كازينو مدريد الدولية، تستعين به كضمانة لنجاحها في ادارة الكازينوهات.

ووجيه سعادة اظهر في وقت سريع، نجاحه وتفوقه، وأظهر رامز خازن براعة قانونية في بلورة حقوق الموظفين وواجباتهم، وجمع الكفايات حوله، وكان حريصاً على المراعاة للعلائق التاريخية بين الأفذاذ.

وهذا جعله حريصاً على العلاقات بين الرئيس سليمان فرنجيه وبين الاستاذ كمال جنبلاط بجعله الاستاذ محسن دلول الى جانبه في وزارة الاعلام، وبين الرئيس فرنجيه والعميد ريمون اده، لدى تعيين الاستاذ فؤاد نفاع وزيراً للخارجية، وكان بمثابة الند السياسي للكتلوي الشهير نهاد بويز احد ابرز الكتلويين على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ظل رامز خازن ووجيه سعادة وقبلان انطون يزرعون المحبة يوم تغيب عن العلائق التاريخية بين الرئيس فرنجيه والعميد الى أن تقلصت المساحة بين الرجلين، ولو على مضض، ذلك ان العميد راح يتدرج في معارضته للعهد، بين النقد الجاف… والنقد الجارح، لان لكل من الرئيس الاول والمعارض الاول افكاراً خاصة تتجمع ولا تتبدد بسهولة.

كان العميد في منفاه الباريسي، يجلس في الطبقة الأخيرة، من فندق الملكة اليزابيت عندما استقبل حفنة من الوجوه السياسية، حضرت الى العاصمة الفرنسية، لتقول له عبارة واحدة: أنت ضمير لبنان، والضمير قد يخطئ وقد يصيب، لكن تنوع الآراء يزيد الجميع ادراكاً بان لبنان هو جمهورية التنوع في منطقة تكاد تختنق بالرأي الواحد.

فلش العميد اوراقه، وراح يعدد الازمات اللبنانية الواحدة تلو الاخرى، فبادره صحافي كان في زيارته: انا مارون حبيقه وقد جئت الى الفندق بناء على موعد سابق، مع الزميل توفيق خطاب رحمه الله – لنقول لكم عبارة واحدة: ابق معارضاً في الداخل وفي الخارج، لان حملة المباخر يكادون يطيحون بالبلد من فرط مباخرهم، ويقضون عليه بالمديح حيناً وبالثناء احياناً.

الا ان العميد قاطعه بقوله الصدق والصراحة هما الطريق الى ما نعتقد بأنه صواب، وفي كثير من الأحيان اغضب على اصدقاء، اهجوهم، لكنني اكتفي بانني عبّرت عن آرائي، ولهم حرية ابداء آرائهم. هذه هي الحرية. لقد عشقها والدي، واحبها شقيقي بيار، الاول دافع عن لبنان كما يحلو له، والثاني رعى الليرة اللبنانية وجعلها تزدهر. اما انا فإني اسعى الى حماية الحرية. كان سقراط يقول انه لا يكفي ان تحب الحرية، بل يجب أن تقول بحرية ما أنت تؤمن به، وتقتنع بانه صواب.

كان لويس بو فرح حاكم الليونز، يؤمن بان جمهورية ملفين جونز تأسست في العام ١٩١٧، لكنه رحل عن عمر يناهز الاثنين وثمانين عاماً، لكنه حرص طوال حياته، على ان تبقى جمهورية ملفون جونز من دون رئيس.

عندما اجتمع رجال الأعمال والمال في مدينة شيكاغو، ورشحوه ليكون رئيساً للجمهورية المذكورة، اعتذر عن قبول المهمة، وآثر ان يبقى ليونزياً عادياً، واهدى الترشيح لسواه.

كان ملفين جونز يقول ان اعظم مكافأة للرئاسة، هي ان ترى كثيراً من النشاطات والمشاريع التي تشغل الليونز، وترعى الخدمات المجاورة الثمينة، ونرى الشكر يشع من عيون الرجال والنساء والاطفال، حيث يبدو العطاء الشخصي اغلى من الذهب.

حقق لويس بو فرح في سنة واحدة، ما حققه الأفذاذ في المنطقة ٣٥١، وعندما يودع سنته قريباً، سيجد أمامه تراثاً من العطاءات، وفي مقدمتها تكريم ضمير لبنان العميد ريمون اده.

وعلى خطى الأفذاذ من القادة الليونزيين، امثال الدكتور فريد جبرائيل نجار مؤسس كلية التربية وعميدها الاول، وانطوان قازان وجورج عويضه، وفيّات نجار دبوسي اول امرأة ارتقت الحاكمية، يودع الحاكم الحالي مجلسه الحاكم، كبيراً في انجازاته، ومتواضعاً في نجاحاته وشعاره الليونز الخالد: نحن نخدم يلازم الجميع بكل فخر واعتداد.

تعاقب على الرئاسة الليونزية في العالم، رجال كبار من مختلف الأقطار في الولايات المتحدة، والقارتين الاوروبية والآسيوية، الا ان البروفيسور الدكتور جورجي غريماليدي، وهو الايطالي الاول الذي تربع على جمهورية ملفين جونز، كان يقول، نهاية القرن الماضي ان تضامن أكثر من ١،٤٣١،٠٠٠ ليون في ١٧٨ دولة في العالم، هذه كانت، بدون أي شك، سنة ناجحة الى أبعد الحدود وذلك بفضلكم أنتم، ليونز العالم.

بفضلكم انتم يعيد مشروع النظر أولاً نعمة البصر الى الألوف من الرجال والنساء والأولاد.

وبفضلكم انتم تتمكن مؤسسة أندية الليونز الدولية من مساعدة الليونز في العالم على تنفيذ مشاريع متعددة في مجال تلبية الاحتياجات الانسانية. وبفضلكم انتم تنمو العضوية وتزداد الأندية. وبفضلكم انتم تنفذ عدة برامج لصالح اليافعين، الليو، وتبادل الأحداث والبحوث والنشاط الكشفي وغيرها مما يساعد النشء على التمرس بالمسؤولية، وعلى التطوع للمساهمة في الخدمات الإنسانية.

وبفضلكم انتم يلاقي شعارنا الاعجاب والاحترام كرمز للخدمة والتزاماً بالشؤون الإنسانية وأملاً في جميع أنحاء العالم.

وبفضلكم انتم يشيد قادة العالم بالليونزية ويتعهدون بدعم مبادراتنا للمستقبل. وبفضلكم انتم ينظر الينا، وكل يوم باقتناع أكبر، على أننا ضمير المجتمع الأخلاقي.

وما تحقق بعد خمس عشرة سنة هو الكثير، الكثير من الإنجازات.

رحيل العميد

ويقول المفكر السياسي رفيق خوري في كتابه الاخير من سنوات المحنة والمهنة انه ليس اقسى من رحيل الكبار، سوى ان يموتوا في المنفى، وهم يحملون الوطن. فكيف اذا كان الراحل هو العمود الاخير في صفّ القيادات التاريخية: ريمون اده؟ وكيف، اذا كان الوطن الباقي هو لبنان الباكي الذي رأى من اطلق عليه لقب الضمير يعيش ثم يموت خارج الوطن؟

لم يكن ريمون اده مجرّد عميد للكتلة الوطنية التي آلت اليه قيادتها بعد وفاة والده الرئيس اميل اده. ولا كان، وهو الذي عاصر ولادة الكيان اللبناني ودور والده فيها ونشأ في بيئة لها موقف من الاستقلال، أقلّ تمسكاً بالاستقلال، وحفاظاً عليه من رجالاته. ولعلّ هذا هو التغيير الكبير الذي قام به في شبابه قبل ان يستقر على ثوابته السياسية والوطنية. فلا هو تغيّر، على كثرة ما تغيّر لبنان. ولا هو اختار المنفى الباريسي الاّ لانه رفض تبديل خياراته الوطنية. لا حضوره قلّ في لبنان، وان غاب عنه اكثر من ربع قرن، ولا محاولات اغتياله دفعته الى الخوف والانكفاء، اذ بقي في باريس الصوت اللبناني الصارخ في برية العالم الذي تخلّى عن الوطن الصغير.

لكن رحيل العميد يدفع اللبنانيين الى الشعور بالخوف، وسط الكثير من الحزن. فالرجل حمل لبنان القديم الى باريس وعاش هناك فيه، وله كأن الذاكرة هي اول ما يحمي الوطن ويدافع عنه ويحافظ عليه ايام المحن. واللبنانيون عاشوا هنا على الذاكرة، وهم يواجهون العواصف والمتغيرات. هو لم ينسَ حساباته القديمة لان الدفاتر عنده مفتوحة دائماً. وهم لم يقرأوا الوقائع الجديدة بالعمق الذي تتطلبه، كأن اغلاق الدفاتر يكفي وحده لتجاوز الاحداث او لكي يكون البديل من مواجهة حقائقها والتحديات.

وليس من السهل ارتجال القيادات في حياة الشعوب. وخصوصاً حين تعجز القيادات الجديدة عن ملء الفراغ الذي يتركه رحيل القيادات التاريخية. فهي، على العموم، تولد او تكبر في الحروب والازمات. ولعل معجزة ريمون اده انه اخذ موقعه بين القيادات في السلم. مرة كرجل دولة ارتبطت باسمه مشاريع مهمة وبقي حلم رئيس بالنسبة الى اللبنانيين، ودائماً كرجل معارضة يراقب ويحاسب ويحترم اصول اللعبة الديمقراطية البرلمانية، فهو لم يشارك في الحرب، وان شارك في المساعي لمنعها ثم لوقفها، وهو ظل يقرأ ويكتب ويتابع حتى حين صارت السياسة في لبنان أسيرة الجهل والبطش.

ولا أحد يعرف الصورة التي تستقر عليها الكتلة الوطنية بعد العميد.

فمن سلبيات الأحزاب اللبنانية، وأحياناً ايجابياتها، الدوران حول شخص يلعب دور القائد والرمز ويمسك بخيوط القرار. لكن الكل يعرف ان اكثر ما يحتاج اليه لبنان اليوم هو تجدد الأحزاب او ظهور احزاب جديدة بدل العودة الى العائلية والعشائرية والى مفاهيم ما قبل المجتمع المدني والمجتمع السياسي. ففي بداية القرن العشرين ومنتصفه عرف اللبنانيون كيف يعبّرون عن انفسهم سياسياً بأحزاب متعددة. وفي بداية القرن الحادي والعشرين يجدون انفسهم إما عائدين الى مفاهيم القرن التاسع عشر، واما اسرى ما كان رداً على التحديات قبل نصف قرن وأكثر.

ولعل أكبر غصّة هي أكبر عزاء، غصّة العميد الذي كان أول من طالب بالقوات الدولية ثم رحل قبل ان يرى واحداً من أهم احلامه يتحقق وهو تطبيق القرار ٤٢٥، وعزاء اللبنانيين في الاستعداد لاستعادة الارض والشعب وهم يودّعون ريمون اده.

والرحيل ليس نهاية الرحلة اللبنانية.

شاهد رأى كل شيء

ويرى رفيق خوري انه عندما سئل الرئيس كلينتون عما غيّرته السلطة فيه فقال: صرت اكثر فلسفة. لكن الرئيس شارل حلو جاء الى الحكم حاملا نظرة فلسفية الى الانسان والكون وحدود السياسة والسلطة. ولعل جوهر تلك النظرة فهم المشاكل بكل ابعادها وتفهم التعايش معها عبر تسويات محدودة. فهو من اوائل الذين استبعدوا الحل الدائم للصراع العربي – الاسرائيلي لانه صراع على السماء لا على الارض. وهو من القلائل بين الرؤساء اللبنانيين الذين لم تكن المكتبة عندهم للديكور، ولا القلم لمهمة واحدة هي توقيع القرارات او الشيكات. حكم من دون الوقوع في ما تقول مرغريت تاتشر ان كل حاكم في حاجة اليه وهو شغف السلطة. وحاور بما لا يقل عمقا عن حوارات سقراط، ورفاقه التي سجلها افلاطون في كتابه الجمهورية.

لا في الرئاسة، ولا قبلها وبعدها، تخلى شارل حلو عن الدور الذي احبه: شاهد على العصر. فهو عاصر قرنا بكامله وشهد بداية قرن وبقي لغزا جميلا الى حد ان البعض يتصور انه شخصية من عصر آخر. عاش وهو يستغرب كيف يقول ويكتب اهل الرأي والسياسة اكثر مما يعرفون. ورحل من دون ان يقول ويكتب سوى اقل مما يعرف. كان رده الدائم على من ينتقده بقسوة، ويسجل اخطاءه ونقاط ضعفه هو القول رأيي في نفسي اقسى بكثير. ولم يكن يطربه من المديح الا اللفتة الذكية اللماحة الى صفاته الطيبة الحقيقية التي مفتاحها المحبة.

في مرحلة العواصف التي تتجمع وصل شارل حلو الى الرئاسة بعد السفارة الهادئة في الفاتيكان، والوزارة التي استقال منها غير مرة احتجاجا على ما يسيء الى الدستور والقانون والحريات والديمقراطية. جاء به رئيس قوي يختلف عنه ليكمل نهجه هو الجنرال فؤاد شهاب الذي رفض التجديد لنفسه، وحكم على النظام بالعقم معتبرا تطويره بالوسائل العادية مهمة مستحيلة. وساهم هو في معركة المجيء برئيس قوي انهى عسكرة النظام لكنه وجد نفسه يرث كل مقدمات الحرب هو الرئيس سليمان فرنجيه. وكانت العقدة التي رافقت الرئيس شارل حلو طوال حياته هي اتفاق القاهرة. فلا من حمّلوه المسؤولية حاولوا قراءة الظروف الداخلية والخارجية التي جعلت الوصول الى الاتفاق قرارا بالاضطرار لا بالخيار لاهون شرين. ولا هو في كل ما شرحه استطاع اقناع هؤلاء بان ازمة الحكم عبر انقسام داخلي عميق اخطر من المغامرة بمواجهة وضع اقليمي متفجر.

لكن اللعبة كانت اكبر من لبنان، واكبر بالطبع من عرفات وسياساته واحلامه. حتى الصورة التي تبدو الان اوضح مما كانت عليه في السبعينات، لا تزال مملوءة بالظلال والاسئلة. ففي صدام المصالح والاستراتيجيات انفجرت الصيغة اللبنانية التي كان ميشال شيحا معلم شارل حلو يرى ضرورة العناية الدائمة بها لكي تُصان من العنف. وفي سباق الاندفاع نحو الخيارات الحادة لم يبق مكان لما سمي الالتباس الخلاق. وقمة المفارقة ان اللبنانيين الذين عرفوا كيف يأخذون الموقع، ويلعبون الدور عند تغيير الدول، حائرون يبحثون عن موقع ودور في عالم متغير. لا بل ان الحريات الديمقراطية التي كانوا روادها صارت مطلبا عزيزا وسط تصاعد المد الديمقراطي حتى في المنطقة.

والغصة، فوق الحزن على رجل كبير، ان اللبنانيين يودعون مع الرئيس شارل حلو بعض الباقي من لبنان الجميل.