نجح محور الممانعة بضرب المفهوم الحقيقي والسليم للديمقراطيّة التي تعني علميّاً حكم الأكثريّة لكن عمليّاً هي تعني حماية الأقليّة. وطبيعة لبنان التكوينيّة على قاعدة التعدّديّة الكيانيّة لا تتناسب ولا تعيش إلّا بوجود الديمقراطيّة العمليّة وليس العلميّة. وما لا شكّ فيه أنّ محور الممانعة نجح بتحويل الديمقراطيّة التوافقيّة إلى ديمقراطيّة تعطيليّة تحت ذريعة التوافق أوّلاً، وتكريساً لهيمنته على القرار السياسي ثانياً.
من هذا المنطلق بالذات، عمل هذا المحور على شلّ الدولة لبسط سيطرته بالكامل فصارت معادلة حكمه تقوم على قدرته على تعطيل الدولة. بقدر ما تتعطّل المؤسسات في الدولة ينتعش هذا المحور أكثر ويتسيَّد أكثر. حتى صار التعطيل يُعتبَر بالنسبة إلى هؤلاء حقّاً دستوريّاً تمكنّوا عبره من تعطيل الانتخابات الرئاسية ومعها البلد كلّه.
وبرغم تشتّت المعارضة وضعفها تمكّنت هذه القوى من كسر هذا الستاتيكو التعطيلي وذلك عبر المواقف التصعيديّة التي أطلقها رئيس حزب «القوّات اللبنانيّة» الدكتور سمير جعجع الذي حذّر من الاستمرار بـ»السلبطة» من قبل «منظمة حزب الله» ومحور الممانعة في تعطيلهما عجلة العمل المؤسّساتي وانتظامه في الدّولة. كذلك الاعتصام الذي يمارسه النائبان ملحم خلف ونجاة عون في المجلس النيابي للضغط على رئيسه لجعل جلسات انتخاب الرئيس مفتوحة. فضلاً عن عودة القاضي طارق البيطار لمتابعة قضيّة التحقيق في تفجير مرفأ بيروت. هذه المتغيّرات الثلاثة كسرت الجمود السياسي وفتحت كوّة في جدار الأزمة السياسيّة. ولن يتمكّن محور الممانعة من إيقاف هذه العجلة مجدّداً إلّا بممارسة المزيد من التعطيل لكبح هذه المسارات الثلاثة. وقد بدأ فعلاً بذلك عبر الاجتهادات التي صدرت عن قضاة النيابة العامّة التمييزيّة الذين أجمعوا على اعتبار قرارات البيطار كأنّها منعدمة الوجود. كذلك تعميمها على الأجهزة الأمنية عبر برقيات بعدم تنفيذ التبليغات وإخلاءات السبيل الصادرة عن البيطار.
إلى ذلك كلّه، استعادة الشارع حركته الاعتراضيّة المتنقلة في مناطق نفوذ الممانعة تبقى مشبوهة إذا لم تنسحب على المناطق اللبنانيّة كافّة. يبدو هذه المرّة أنّ «منظمة حزب الله»، المحرّك الأساسي لمحور الممانعة على الأرض، قد لمست استحالة استخدامها السلاح بشكل مباشر. وذلك تجنّباً لأيّ اصطدام مع المؤسسات الأمنية والعسكريّة كي لا تقدّم ورقة مجانية لقائد الجيش اللبناني المرشّح المحتمَل الذي لم يترشّح حتّى الساعة.
أمّا مايسترو الممانعة المؤسّساتي أي رئيس مجلس النواب نبيه برّي فحتّى هذه الساعة لم يخضع للضغط الذي يمارسه النائبان المعتصمان. فإن لم تكبر حلقة هذا الاعتصام لن تؤتي أيّ نتائج مرجوّة. فضلاً عن أنّ المعتصمَين ينتخبان بورقتين مختلفتين من دون أن يكون لدى فريقهما مرشّح معتمد. فإن لم يتوحّد المعتصمون حول اسم واحد فعبثاً يكون أيّ اعتصام. والأكثر يجب أن يتوحّد هؤلاء مع السياديّين الذين من الجلسة الأولى ينتخبون مرشّحاً واحداً. وإن لم يكن الاسم نفسه فليتمّ التباحث حول مرشّح آخر ليكون هذا المتغيّر فاعلاً إيجابيّاً فلا يبقى سلبيّاً من دون أيّ مفعول.
ولِينجح الممانعون في فرملة هذه الحركيّة السياسيّة، يستمرّون بتعطيلهم المؤسّساتي للعمليّة الانتخابيّة. ويبدو أنّ الأرنب الجديد الذي بدأ بإخراجه الرئيس برّي سيشكّل أزمة جديدة تضيف إلى التعطيل تعطيلاً. فالفريق المعارض يرفض أيّ جلسة تشريعيّة بحجّة دستوريّة وهي أنّ المادّة 74 من الدّستور ومنذ ليل31 تشرين الأوّل 2022 تحتّم اجتماع المجلس فوراً لانتخاب رئيس؛ فيما يصرّ برّي تحت ذريعة التشريع على فتح جلسة تشريعيّة أقلّ ما يمكن اعتبارها غير شرعيّة بحسب المادّة 75 التي تحوّل المجلس إلى هيئة انتخابية بعد شغور الرئاسة.
إذا استمرّت الأمور على هذا النّحو التعطيلي، والعملة بمنحاها الإنهياري، والشارع بحالة غيبوبة سريريّة فلن يترك لبنان ليواجه مصيره بنفسه. لكن على اللبنانيّين قادةً وسَاسَةً وشعباً أن يرفعوا أصواتهم باتّجاه المجتمع الدّولي الذي بغضّ النّظر عن انشغالاته بالحرب الروسيّة على أوكرانيا وتداعياتها لن يتمكّن من صمّ آذانه عن الصرخات الفاتيكانيّة التي تمارس ضغوطاً دوليّة لن تتأخّر ثمارها لتنضج. وعندها هل سينجح تعطيل الممانعة في كبح أيّ حراك دوليّ لحلّ القضيّة اللبنانيّة؟