في السياسة نوعان من القيادات المستنيرة. القيادة الأولى، كلما ازدادت قوة وحققت مكاسب وطنية وانتصارات، ازدادت تواضعا وتسامحا، وتصل الى حدّ التنازل عما لديها لمصلحة المنافس أو الخصم من أبناء الوطن، وكأنها تعتذر له ضمنا عن انتصارها عليه! والنوع الثاني من القيادات المستنيرة يزداد شدّة وصرامة كلما ازداد قوة ونجاحا وفوزا وانتصارات. وقد يسيء البعض تفسير هذا السلوك، ويتوهّم انه نوع من التعالي أو العناد. والواقع هو غير ذلك، لأن التكوين الفكري والنفسي والأخلاقي لهذا النمط من القيادات المستنيرة يحملها على دقّة التمسّك بالموقف المتشدّد في الشكل والمضمون، وتعتبر ان بداية التنازل في الشكل يقود الى بداية التنازل في المضمون!
***
يعيش المجتمع السياسي في لبنان راهنا حالة من هذا النوع، ولا تجد لها مخرجا، وتؤثر سلبا على التشكيل الحكومي، وعلى المصلحة الوطنية في آن، والتي تفترض عدم اضاعة يوم واحد، أو حتى ساعة واحدة، لتشكيل حكومة جديدة تعمل بكل طاقاتها، لتعويض ما فات. وكل قيادة مستنيرة هي حكيمة أيضا، ولا بد لها من أن تجد حلولا مرنة لحل اشكالية هذا العارض الطارئ، وتجاوزه لتحاشي وقوع ضرر أفدح منه خطرا وسوءا. والتأخير في اعلان التشكيلة الحكومية يتسبّب بهذا النوع من الضرر، ولا سيما على صعيد الاستحقاق النيابي المقبل، وما يتحكّم بموعد اجرائه من قيود ومهل دستورية…
***
على ذكر الاستحقاق الانتخابي، نشهد تسابقا بين السياسيين على التنصّل من قانون الستين، ورفض اجراء الانتخابات المقبلة على أساسه، وذلك في محاولة منهم لنفي مقولة أن قلوبهم معه وسيوفهم عليه! غير أن في مثل هذا الموقف للسياسيين برفضهم اللفظي للستين، نوعا من الاحتيال والغش، لأن هذا الموقف يترك لهم بابا دوارا يتيح لهم الزعم بأن حشرة الوقت والمواعيد أملت عليهم في اللحظة الأخيرة خوض الانتخابات على أساس القانون الذي أعلنوا عن رفضه سابقا بكل إباء وشمم!
***
الموقف المطلوب من السياسيين المعارضين لفظا لقانون الستين، ليس اعلان وفاته، وانما دفن جثته باتخاذ موقف جازم يؤكد مقاطعة أية انتخابات تجري على أساس ذلك القانون، ودعوة ناخبيهم الى الالتزام بها. وعندما تمتنع غالبية التيارات والأحزاب وتقاطع الانتخابات على أساس الستين، ولا تتوجه غالبية ساحقة من الناخبين الى صندوق الاقتراع، عندها تواجه الحكومة وكذلك البرلمان، هذا الأمر الواقع، ويضطران الى وضع القانون الجديد المنشود.
ورد خطأ مطبعي في مقال أمس والصواب هو تحولات لا محولات.