Site icon IMLebanon

اشتراط التوافق على كل شيء إلّا السلاح.. يُعطّل كل شيء

 

لبنان أمام مشكلة «منطقية» قبل أي شيء آخر. مشكلة تكرّر في كل المشاكل. إنها مشكلة «التوافقية» بالشكل المطروحة فيه، بهذا الشكل المسخ بإمتياز، والذي يزداد «مسخية» عاماً بعد عام، منذ انتهاء الحرب الأهلية وإلى اليوم.

لا يمكن أن يتأمّن توافق حول كل شيء. رهن مجتمع سياسي بالحاجة إلى تأمين التوافق التام حول أشياء لها مواقيت دستورية محدّدة، أو ترتبط بحاجات حياتية لها أمد معيّن، هو مضاعفة كل أسباب الهشاشة والتفسّخ في هذا المجتمع، والإمعان في إضعاف نموذج الدولة الذي يستند الى هذا المجتمع.

وتكبر المشكلة أكثر، بسبب أن الطرف الأكثر «غلواً» في نشدان هذه التوافقية التعجيزية، التطييرية للمهل الدستورية والقانونية، وقليلة الإكتراث بالدلالة الزمانية للحاجات الحياتية وأحوال الناس، هو نفسه الطرف الأكثر تمنعاً عن مساءلة سلاحه وحروبه ودويلته الموازية وارتباطاته الإقليمية وأيديولوجيته المتطرفة سواء كانت المساءلة بالمنظار الدستوري الصرف، أو بالمنظار المدني البحت، أو بمنظار هذه «التوافقية» نفسها الذي هو يطرحها أو يتلطى خلفها.

ثم تكبر المشكلة أكثر فأكثر، عندما يختزل هذا الطرف الخيارات الموضوعة أمام اللبنانيين الى اثنين: اما الارتضاء بهذه التوافقية المتطرفة من ناحية، والناقصة من ناحية ثانية، وإما نبذ التوافقية بالمطلق، والتعامل مع الواقع الطائفي اللبناني بمنطق «العلاج بالصدمات»، إنّما مرة أخرى، من دون أن يشمل «العلاج بالصدمات» هذا، تلك المرجعية التعبوية المسلّحة التي ترفض أي شكل من أشكال التزامها بمرجعية الدولة اللبنانية، ومؤسساتها، رغم مشاركتها في هذه المؤسسات.

في المقلب الآخر من المعادلة اللبنانية، ثمة المتضررون من هيمنة السلاح التغلبي وحروبه اللامنتهية وتوافقيته التعجيزية والمبتورة في آن والعلاج بالصدمات المقترح، مرة بالكلام عن مؤتمر تأسيسي، ومرة بطرح للنسبية المطلقة في وقت يفترض فيه تقريب المسافة بين الطروح المختلفة، وليس دفع طرح واحد، بعينه، التصويت على أساس النظام النسبي، إلى أقصاه. لكنّ هؤلاء المتضررين من هذه الهيمنة يعيشون أيضاً في ما بينهم في أزمة متزايدة، جرى العمل السياسي «بالقطعة»، منذ اليوم الذي فقد فيه الخطاب الجبهوي المشترك لثورة الأرز زخمه.

نحن في بلد لا تجرى فيه الإنتخابات منذ سبعة أعوام، بسبب الاتفاق بين سياسييه على عدم العودة الى القانون الذي جرت على اساسه الانتخابات السابقة، اي قانون الدوحة يحيل على «قانون الستين»، دون الاتفاق على بديل عن هذا القانون، ودون الاتفاق على ان المؤسسات هي التي ينضج داخلها هذا البديل، وليس انتظار التوافق التام حوله بين كل القوى، ما يستحيل ان يحصل في اي بلد.

لكن هذا البلد ينبغي ان يقرر بالنتيجة. هل فعلاً الانتخابات فيه حاجة، والمؤسسات والدولة بشكل عام هل هي ضرورية فيه؟ أم ان كل هذا «اكسسوار» للزخرفة والتزيين، ويمكن للبنانيين العيش بـ «فوضويتهم» القائمة، ينتخبون ساعة يجهز القانون، ويجهز القانون حين يملّون من انتظاره؟

أم أنّ الدساتير هي مواعيد دستورية قبل أي شيء آخر، مثلما أن العمل هو دوام عمل قبل أي شيء آخر؟ فلا يمكن انتظار توافق مطلق لا في انتخابات رئاسية ولا في نيابية، ولا يمكن أساساً للفصل بين السلطات أن تقوم له قائمة في ظل التوافقية المطلقة هذه، وكيف الحال ان كانت توافقية مطلقة، لكن مُدارة بعنجهية احتفاظ طرف واحد بسلاحه، ومراكمته، وتدخّله في بلدان أخرى؟

حتى فكرة المؤتمر التأسيسي التي يطرحها «حزب الله»، بين الفينة والفينة، ما هي بالنتيجة؟ هي ما يفعله «حزب الله» منذ سنين: اعتبار ان سلاحه، ومفهومه عن المقاومة، وقرار الحرب والسلم، وتدخله في البلدان الاخرى، في غنى عن التوافق حوله، وغير متطلب لهذا التوافق، واشتراط ان تحدث كل الأمور «ما دون ذلك» بالتوافق التام، والا يمكن ان تنتظر هذه المؤسسة ثلاث سنوات، وتلك المؤسسات ثماني سنوات، وهكذا، إلى أن تصبح المخاطرة بالإستقرار المجتمعي نافرة، ويصبح القلق على عجلة الإقتصاد ضاغطاً جداً، أو إلى أن يتراجع الغير أمامه. ليس هناك أي تصور آخر عن المؤتمر التأسيسي غير ما نعيشه منذ سنين بفعل هذا المنطق المزاجي حيناً، والتوافقي حيناً.