يصعب الخروج من الأزمة المالية إذ لم تترافق الخطة الموضوعة مع ثلاثة عناصر أساسية: آلية عملية ضمن مهلة زمنية، رؤية شاملة وموضوعية بعيدة عن الاستنسابية والتشفّي ولا تستثني ايّ قطاع أو مرفق عام، والابتعاد عن السجال والانقسام السياسيين.
الإعلان عن خطة مالية إنقاذية أمر جيِّد، ولكن الخطط تبقى شكلية وصورية إذا لم تترافق مع خطوات تنفيذية ضمن بيئة سياسية مساعدة وشعبية مواتية، فيما الواقع على الأرض مختلف تماماً مع دخول الحكومة في مواجهات وسجالات كانت في غنى عنها على قاعدة انّ الوقت للعمل وليس لمحاسبة فريق وغَضّ النظر عن آخر في سياق أسلوب قديم جرِّب ونتائجه معروفة.
فالخطط والأوراق الإصلاحية تعدّ ولا تحصى، والمهم دائماً القدرة على الترجمة على أرض الواقع، وأي ترجمة يجب ان تكون متوازنة بما يُفسح في المجال أمام تمريرها من منطلق «ظلم في الرعية عدل في السوية»، وفي حال لم تطبّق هذه القاعدة فعبثاً الرهان على إنقاذ مهما تضمنّت الخطة من حلول.
والمؤشرات لغاية اللحظة غير مطمئة، بدءاً من الكلام المتواصل عن تركة ثقيلة والذي لا يقدّم جديداً باستثناء فتح جبهات سياسية ليس وقتها ولا أوانها، فيما مهمة الحكومة الأساسية إخراج لبنان من الأزمة الكارثية، وصولاً إلى الحديث عن مؤامرات من دون تقديم مضبطة اتهامية فعلية بما يذكِّر بأزمنة غابرة، وما بينهما التماهي مع أجندة فريق سياسي والابتعاد عن كل ما يَمسّ مواقعه ونفوذه ودوره الذي ساهم بشكل أساس في الوصول إلى هذه اللحظة.
وعلى رغم انّ الحكومة لم تمنح ثقة قوى سياسية أساسية، إلّا انّ هذه القوى أعطتها فرصة جدية للعمل من أجل إخراج لبنان من أزمته المالية، ولم تبادر منذ اللحظة الأولى إلى معارضة الحكومة إلا بعدما شعرت بأنها مستهدفة. وبالتالي، بدلاً من ان تستفيد حكومة دياب من فترة السماح التي أعطيت لها، تأخّرت أولاً من دون مبرر في إعلان خطتها المالية، ودخلت ثانياً في مواجهات سياسية كان يجب ان تبتعد عنها وأن تركِّز كل جهودها على الإنقاذ.
ففي وضع طبيعي يصعب على حكومة ان تواجه الحالتين الجنبلاطية والحريرية من دون توتر واحتقان سياسيين، فكيف في حالة الانهيار القائمة والغضب الشعبي والتأزُّم المالي، وكان من الحكمة التبريد مع «الإشتراكي» و»المستقبل» من أجل تقطيع هذه المرحلة، ولم يكن الأمر متعذّراً إذ يكفي التجاوب مع مطالب وليد جنبلاط المعلومة، والابتعاد عن استفزاز الحالة السنية بإدانة المرحلة السابقة التي تقع المسؤولية الأساسية فيها على الإدارة السورية، وان تستفيد من تعامل «القوات اللبنانية» معها على القطعة، فتؤيّد حيث يجب وتعارض حيث تجد، بخاصة انّ الأطراف الثلاثة كانت قد أعطت الحكومة فرصتها.
ولكن هناك مَن توهّم وأقنع، ربما، رئيس الحكومة بالقدرة على تسجيل النقاط السياسية على أخصامه، فيما الهدف الوحيد والثمين الذي بإمكانه تسجيله هو بإخراج لبنان من أزمته، فيما لا الرئيس نبيه بري في وارد القطع مع «الإشتراكي» و»المستقبل»، ولا «حزب الله» بدوره في وارد الدخول في تشنّجات وطنية ومذهبية ومناطقية، والدليل كيفية معالجته لقضية قبرشمون سابقاً والفاخوري راهناً والظهور بمظهر عدم تبنّي المواجهة الإعلامية مع حاكم مصرف لبنان ولا تحميله لوحده المسؤولية.
فالحزب أكثر من يدرك حساسية المرحلة واللحظة الخارجية والداخلية، ولا يناسبه على غرار القوى السياسية الأساسية دخول لبنان في الفوضى، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد تقديم تنازلات فعلية تطال نفوذه ومواقع تأثيره وإمساكه بمفاصل الدولة اللبنانية، وفي حال لم يقدم على هذه التنازلات، ويدفع العهد لأن يحذو حذوه، فلا أمل بالإنقاذ ولا الخروج من الأزمة المالية، ولا مفرّ وقتذاك من الانزلاق نحو الفوضى.
ويدرك الرئيس حسان دياب انه ينجح كشخص وحكومة في حال نجح بمعالجة الأزمة المالية، ويفشل وحكومته في حال لم يتمكن من تقديم الحلول التي تنتظرها الناس، ويستحيل ان ينجح في ظل الأجواء السائدة اليوم في البلد، ويخطئ إذا اعتقد انّ الاتّكاء على الأكثرية الحاكمة كاف لإنجاح مشروع حكومته، لأنّ هذه الأكثرية التي أوصَلت لبنان إلى الانهيار أضعف من إخراجه من هذا الانهيار.
والمقاربة الكلاسيكية لا تصح اليوم بمعنى الرهان على التوازنات القائمة أكانت من طبيعة سياسية أو مرتبطة بنفوذ «حزب الله» أو على قاعدة أكثرية وأقلية من أجل قيادة السفينة اللبنانية المترنحة، لا سيما انّ الحكومة تفتقد إلى دعم شرائح واسعة ووازنة، تبدأ من الحالة الشعبية العامة والعارمة والعابرة للطوائف والغاضبة من تدهور أحوالها المعيشية، ولا تنتهي بالبيئات السنية والدرزية والمسيحية مع تراجع الحالة العونية.
فمواجهة الأزمة المالية كانت تتطلّب مقاربة مختلفة تماماً، وقد ثبت بالملموس انّ حكومة مَمسوكة من الأكثرية الحاكمة غير قادرة على فعل اي شيء ولا تقديم أي شيء، ولا حلّ للأزمة إلّا بأن تعلن هذه الأكثرية وفي طليعتها «حزب الله» الجلوس في هذه المرحلة على مقاعد الاحتياط لتمكين الحكومة من تنفيذ المهمة المطلوبة منها، إن بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، أو بانتزاع ثقة الخارج لدعم الداخل.
وفي حال لم ترفع الأكثرية يدها عن السلطة، ولم تبدِّل الحكومة بنهجها، فإنّ البلاد ستواصل انزلاقها رويداً رويداً نحو الفوضى، وكل الكلام عن مؤامرات وما شابَه يزيد في تسريع وتيرة الانهيار، فالمؤامرة الوحيدة أو الأساسية تكمن في عدم الترفُّع في الممارسة السياسية والفشل في معالجة الأزمة المالية، لأنّ الناس الجائعة لا تُلام على ردود فعلها، كما انّ الأرضية الخصبة تسمح لأي متآمر ان يستغل هذه التربة، فيما الهدف الأوّل والأخير للحكومة معالجة أسباب خصوبة التربة اللبنانية بتبديد هواجس الناس وقلقها.
وكل الكلام أيضاً عن مؤامرة تستهدف «حزب الله» ليس في محله ويندرج في سياق الكلام القديم الذي يؤخِّر ولا يقدِّم، وإذا كان هناك من مؤامرة فإنّ إسقاطها يكون بمعالجة الأزمة المالية وليس بالتمسّك بسياسات قديمة أوصَلت لبنان إلى ما وصل إليه، فيما المؤامرة الحقيقية تستهدف لبنان واللبنانيين الذين فقدوا الأمل بكل شيء ويشعرون انّ وطنهم ينزلق إلى فوضى ما بعدها فوضى.
وإذا كان التوازن بين محورين وجبهتين أدى في العام 1975 إلى سقوط لبنان في الهاوية والمجهول، فإنّ سقوط لبنان اليوم أو إنقاذه يتوقف على فريق واحد مُمسك بزمام كل السلطة، والقوى الأخرى لا تستطيع أن تفعل شيئاً باستثناء التحذير كونها لا تملك قدرة التأثير في ظل فريق مسلّح وقابض على مفاصل السلطة، وهذا لا يعني انّ الإنقاذ سيأتي عن طريق هذا الفريق، لأنّ الطريق الوحيد للإنقاذ هو في استراحة هذا الفريق وأن يجلس جانباً حتى إشعار آخر، شأنه شأن غيره من القوى السياسية كما أكد الدكتور سمير جعجع في حوار بعبدا في 2 أيلول الماضي.
ويخطئ في المقابل أيضاً من يعتبر انّ الحلّ يكون عن طريق «قوم لأقعد محلّك»، لأنّ البلاد على مسافة أسابيع مصيرية وليس أشهراً، ولا تحتمل حتى إعادة إنتاج سلطة ولا تغيير حكومة ولا ما شابه، فإمّا ان يُصار إلى تغيير النهج الحكومي المتّبع سريعاً، وان يرفع «حزب الله» قبضته ويلزم الأكثرية التي هو جزء منها بتطبيق الإصلاحات، وإمّا ستتحوّل الفوضى إلى أمر واقع.
ويبقى انّ إنجاز الخطة المالية أمر جيِّد وإيجابي بمعزل عمّا تضمنته من بنود مبهمة وأخرى تحتمل التأويل وأخيرة تم إسقاطها والقفز فوقها، إلّا أنّ مفتاح نجاح الخطة بيد رئيس الحكومة، فإذا قرر الابتعاد عن المواجهات السياسية، ووضع الأكثرية التي كلّفته أمام الأمر الواقع بأنه لا يمكنه المسايرة التي ستقود حتماً إلى الانهيار وإلّا استقالته ستكون على الطاولة في حال لم تُطلق الأكثرية يديه بالتنفيذ العادل والشامل لا الاستنسابي والانتقائي، فإنّ فرصة الإنقاذ تكون متوافرة.