في مؤتمره الصحافي الأخير، قال رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الكثير حول الجلسة التشريعية التي دعا إليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري وميثاقيّتها المفترضة.
ركّز كثيرون على «النداء» الذي وجّهه إلى بري، بوصفه «أب الميثاقية» وبالتالي لا يمكن أن يتخلّى عنها تمامًا كما لا يمكن للوالد أن يتخلّى عن ابنه، في خطابٍ وصفه المراقبون بـ«اللطيف»، خصوصًا أنّه حرص على إبقاء الخطوط مفتوحة مع الرجل، الذي «تعهّد» له بأنّ القوانين المالية التي يخشى «ضياعها» ستُقَرّ قبل انتهاء المُهَل القانونية، «وعلى مسؤوليّته».
لكن وراء هذا النداء «اللطيف» كان نداءٌ آخر يفتقد في جوهره للكثير من «اللطف»، وجّهه جعجع إلى «حليفه» الأكثر ثباتًا، رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري. بكلماتٍ مقتضبةٍ وغير بريئة، توجّه «الحكيم» إلى «الشيخ سعد» قائلاً ما حرفيّته: «أهم إرث تركه الرئيس رفيق الحريري هو كلامه عن اننا اوقفنا العد بين المسيحيين والمسلمين، نحن مع المناصفة والاعتدال والشراكة والميثاقية، وأنت الأحرص على الحفاظ على إرث ابيك».
ترى مصادر سياسية مقربة من القوات أنّ هذا النداء، على اقتضابه، قد يُعَدّ أهمّ ما في المؤتمر الصحافي لجعجع، باعتباره يخفي بين طيّاته «عتبًا وامتعاضاً معلناً» هو الأول من نوعه في تاريخ العلاقة بين «القوات اللبنانية» و«تيار المستقبل»، التي، وإن مرّت بـ«طلعات ونزلات» بطبيعة الحال، إلا أنّها بقيت «مضبوطة» إلى حدّ كبير، من خلال حرص كلّ منهما على الوقوف على خاطر الآخر في مختلف المحطّات المفصليّة.
وتلفت المصادر إلى أنّ ما «يحزّ» في نفس «القواتيين» هو أنّهم لا يشعرون أنّ «التيار الأزرق» يقف إلى جانبهم في قضية الجلسة التشريعية المنتظرة ولو «لرفع العتب» ليس إلا، بل هو على العكس من ذلك لم يتردّد في التموضع في «الاتجاه المعاكس»، مزايدًا على رئيس المجلس النيابي في إصراره على عقد الجلسة «بمن حضر»، بل مقدّماً النواب المسيحيين في «كتلة المستقبل» نفسها كـ«سلاحٍ فتّاك» في وجه المعترضين على «الميثاقية»، رغم إدراكه أنّه، إذا كان المسيحيون يطالبون بقانونٍ انتخابيٍ جديد، فهو أولاً للحدّ من عدد النواب من الحصّة المسيحيّة الذين لا يتمتّعون بحيثيةٍ شعبية حقيقيّةٍ، إلا إذا كان «المستقبليّون» يعتقدون مثلاً أنّ نواباً من أمثال كامل الرفاعي وقاسم هاشم ووليد سكرية، مع كامل الاحترام والتقدير لهم، يمكن أن يؤمّنوا الميثاقية السنية.
هنا، تعود المصادر بالذاكرة إلى مشروع القانون الأرثوذكسي، الذي تقدّمت به الكتل المسيحية واحتضنته البطريركية المارونية، وكان يقضي بانتخاب كلّ طائفة لنوابها على أساس النسبيّة، واصطدم بـ«فيتو» من قبل «تيار المستقبل» الذي «رجمه» سريعًا، باعتباره قانوناً طائفياً مذهبياً سيؤدّي للخراب، وما كان من «القوات» يومها، رغم اقتناعها بالقانون وإعلان موافقتها المبدئية عليه، إلا أن تراجعت عنه «كرمى لعيون» الحليف «المستقبلي» والذهاب نحو التوافق معه على «حلّ وسط» عنوانه «القانون المختلط»، من دون أن تجد صدىً لـ«تنازلها» في الشارع «المستقبليّ»، بما يحفظ «ماء الوجه» أمام الجمهور، بعكس ما يفعل «حزب الله» مثلاً مع «التيار الوطني الحر»، الذي لا يفوّت مناسبة إلا ويؤكد أنّ وقوف الأخير إلى جانبه في حرب تموز هو «دَينٌ في رقبته إلى يوم القيامة» ويتصرّف معه عمليًا على هذا الأساس.
أمرٌ آخر يزيد من «حراجة» الموقف بالنسبة لـ«القوات»، تقول المصادر، يكمن في موقف «التيار الأزرق» من قانون «استعادة الجنسية»، فبين كلّ الكتل السياسية في المجلس النيابي، والتي قيل أنّ منها من هو «غير مرتاح ضمنًا» للقانون، لم يعلُ صوتٌ «معترضٌ» في العَلَن على القانون الذي يبدي له المسيحيون حماسة شديدة سوى «المستقبليّون»، ولم يخرج أحد ليطرح «تعديلاتٍ» على القانون سوى «المستقبليّين» أنفسهم من خلال النائب الطرابلسيّ سمير الجسر، الأمر الذي لم ينزل لا بردًا ولا سلامًا على «القواتيين»، خصوصًا بعد أن كانوا قد أبلغوا «التيار الوطني الحر» وغيره أنّهم حصلوا على «وعدٍ» من رئيس «تيار المستقبل» بأنّه سيصوّت لصالح هذا المشروع عند طرحه في مجلس النواب. وبالتالي، وحتى لو سحب النائب الجسر مشروعه، الذي لم يُقدَّم أصلاً بشكلٍ رسمي، ولو خرج نواب «المستقبل» المسيحيون وبينهم هادي حبيش ليؤكدوا سيرهم إلى جانب الكتل المسيحية في هذا المشروع، فإنّ مجرّد «الفكرة» لا تزال تستفزّ «القواتيين» في العمق.
لكلّ هذه الأسباب، لا يشعر «القواتيون» بأنّ «تيار المستقبل» بادلهم التضحيات التي سبق أن سلّفوه إياها تقول المصادر المقربة من القوات، حتى لو كان ذلك على طريقة «الضحك على الذقون» فقط لا غير. إلا أنّ ذلك لا يعني أنّهم في وارد «التفريط» بالتحالف معه، بوصفه تحالفاً استراتيجيًا، تقول المصادر، مشيرة إلى أنّ «القواتيين» و»المستقبليين» يدركون أنّ لا غنى لأحدِهما عن الآخر، لأنّهم متيقّنون بأنّ «الطلاق» فيما بينهم سيؤدّي تلقائيًا إلى إنهاء تحالف «14 آذار» برمّته، باعتبار أنّ «التباعد» فيما بينهم وبين «حزب الكتائب» يزداد اتساعًا مع كلّ يوم، ولم يعد هناك من شكّ أنّ الأخير يمضي بثبات نحو «استقلاليةٍ» لطالما طمح إليها.
من هنا، تعتبر المصادر أنّ «العتب» القواتي يأتي منسجمًا مع القول الشائع «عتبٌ على قدر المحبّة» ليس أكثر ولا أقلّ، خصوصًا أنّ «القواتيين» يعتبرون أنّ على حليفهم أن يتفهّم حيثيات تقاربهم مع «التيار الوطني الحر»، الذي تشير كلّ المعطيات إلى أنّ حزب «القوات» سيكون «الرابح الأكبر» منه على المدى البعيد، تمامًا كما يتفهّمون هم حيثيات تقارب «المستقبل» مع «الوطني الحر» و«حزب الله» في أكثر من محطة، وأحياناً على حسابهم نفسهم، كما حصل يوم وصلت تسريبات عن لقاءات الحريري والعماد ميشال عون، وكان «القواتيون» مثل «الأطرش بالزفّة» بكلّ ما للكلمة من معنى.
العلاقة بين «القوات» و«المستقبل» لن تنتهي إذاً، لا بسبب قانون انتخاب ولا قانون استعادة جنسية ولا جلسة تشريعية. ولكنّ ذلك لا يدحض حقيقة أنّ شيئاً ما انكسر بين «الحليفين»، ولا بدّ من «ترميمه» وقبل فوات الأوان…