يبدو الأمر أكثر تعقيًدا لأي باحث يريد أن يقّيم وضعية تنظيم داعش الذي يمّر بأكثر فتراته حرًجا وتحولاً٬ بعد استهدافه من عدة أطراف محلية وخارجية (التحّرك التركي أخيًرا)٬ ولو بشكل منفرد قد يساهم في زيادة عمليات التنظيم الخارجية على سبيل الانتقام والتشتيت٬ وترحيل المعركة من داخل مناطق حدوده إلى دول متاخمة٬ كما درجت استراتيجيته خلال الأعوام السابقة.
إلا أن اللافت في الأمر هو عدم توقف «خزانات التجنيد» لكوادر «داعش» خارج مناطق التوتر٬ وهو ما يعني أن التنظيم متضخم من حيث «القيمة» خارج أراضيه٬ وإن كان يعاني من صعوبات وجودية في مناطقه٬ لذلك فإن انتعاش العمليات الفردية منِقبل «داعشي الخارج» يعني محاولة التنظيم الخروج من مأزقه في مناطق التوتر٬ وكما هو الحال فإن تراجع كوادر «داعش» في العراق والشام مفصول عن تمدد التنظيم في مناطق شمال أفريقيا٬ وتحديًدا في ليبيا مركز قوة تنظيم داعش الآن.
وفي التفاصيل الصغيرة٬ فإن فرار الضابط البحري الكويتي٬ الذي تلقى تدريبه في أفضل الكليات البحرية البريطانية٬ إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم داعش يفتح سؤال التجنيد مجدًدا حول دوافع الانضمام لتنظيمات مسلحة خطرة٬ والتخلي عن حياة ناجحة عملًيا. الشاب الذي لم يصل لعقد الثلاثين بعد لم تعلم عنه السلطات الكويتية٬ كما أن أهله لم يبلغوا عنه٬ بل تم التعرف على شخصيته والتحذير من إمكاناته وخبراته عبر وثائق لـ«داعش» تم تسريبها لإحدى الصحف البريطانية التي أطلقت صيحات النذير بسبب إدراكها لخطورة امتلاك تنظيم داعش خبرة ملاحية قد تفتح لها المجال نحو توسيع قدراتها على الأرض٬ بالانتقال إلى تهديد حركة الملاحة البحرية.
ولب المسألة شرحها زملاء العصيمي٬ الضابط الملتحق بتنظيم داعش٬ حيث أكدت شهاداتهم أنه كان يمر بظروف نفسية صعبة٬ إلا أن تحوله جاء من تأثره بدعاية داعش»٬ خصوًصا أفلامها المرئية وأشرطة الفيديو التي أدمن على مشاهدتها٬ والتي تعرض عمليات القتل التي ترتكب في سوريا على يد قوات بشار الأسد٬ وحين ناقشه زملاؤه قال: «ما يحدث في سوريا يجب أن يغضب أي مسلم٬ لكنني لن اكتفي بالغضب٬ بل سأساهم في التغيير بنفسي»٬ ويستطرد زملاؤه في حكاية تحوله من طالب متفوق إلى شخص متشدد نشط في تجنيد الطلاب للانضمام إلى تنظيم داعش٬ إلا أن كل هذه المعلومات لم يكن لها أن تكتشف لولا تسرب أربعين استمارة طلب انضمام لتنظيم داعش إلى الصحيفة البريطانية.
إشكالية الإرهاب الحقيقية هي في تحوله إلى «حل سريع» لدى عدد من الشبان الغاضبين على الحالة السياسية في المنطقة٬ وأي إجراءات تسعى إلى الحد من تمدد هذه الظاهرة العنفية٬ التي تعد المشكلة الأولى الآن٬ لن تؤتي أكلها ما لم تتغير الأوضاع السياسية في مناطق التوتر٬ وتحديًدا نهاية حقبة نظام الأسد الذي يبقى الدافع الأول لتوتير الأوضاع٬ فعلى الرغم من مؤشرات لدراسات كثيرة وإحصاءات عن تراجع تنظيم داعش في الدول العربية٬ وتمدده في الدول الإسلامية التي تعد مناطق بكًرا له٬ وأهمها في آسيا والجمهوريات المستقلة من الاتحاد السوفياتي٬ إلا أن ما حدث في «حلب» أرجع شعبية «داعش» بقوة٬ بعد أن أصبحت الحالة السورية خارج اهتمام المجتمع الدولي٬ إلا في حدود الشجب والبكاء على انتهاكات حقوق الإنسان.
صعود فكر «التطرف المسلح» الذي تعبر عنه أطراف كثيرة في معادلات الربيع العربي متوقع له أن يخلف فشل التوافقية السياسية٬ لكن أن يصبح الإرهاب سلاًحا سياسًيا لتغيير الواقع٬ فهذا امتياز جديد على طريقة الخوارج القدماء في الاحتساب على الأداء السياسي٬ وهو ما يعني أن سقوط «المستبد» قد يخلف الآلاف من المستبدين الذين لم يستطيعوا مقارعته٬ وهو ما يعني بلغة أخرى إعادة قراءة الحالة العربية خارج مثاليات وثنائيات النظام المعارضة٬ الشعب الحكومة… إلخ٬ وأعتقد٬ لا على سبيل التشاؤم٬ أن الخروج من ثقافة «الدم» المتأصلة في الحالة العربية التي سيعززها بقوة صعود موجات التطرف٬ بحاجة الآن إلى عقود من العمل الدؤوب.
وإذا كانت «داعش» من قبل تعاني من تذبذب شرعيتها داخل المجتمعات الإسلامية٬ وتحديًدا داخل السياق الإسلاموي وتيارات الإسلام السياسي٬ فإن تفاقم الأوضاع السياسية يعطيه مبرًرا لاقتناص أكبر عدد من المؤيدين والمتابعين له٬ ومن يتابع محتوى المنتديات ومنصات التواصل الاجتماعي يدرك تغير هذه القناعة٬ واللغة الجديدة فيما يخص الحالة السورية٬ لا سيما بعد مجزرة حلب.
والتدخل الروسي زاد من صعوبة الملف السوري٬ لا سيما أن الذاكرة الإسلامية ما زالت رطبة بانتهاكات الدب الروسي في أفغانستان٬ وبداية وجود كتلة لميليشيات مسلحة باسم «الجهاد»٬ وما بدا انسحاًبا روسًيا أثبت الواقع أنه تكنيك عالي الاحترافية لإعادة الانتشار والتموضع والعمل الدؤوب على المستوى السياسي لتثبيت نظام الأسد٬ بما في ذلك التفاوض مع الولايات المتحدة حول تفاصيل صغيرة تتعلق بالدستور والمرحلة الانتقالية٬ بينما يحترق أهلنا في حلب بنيران الأسد وموسكو.
ما أود قوله باختصار أن التنظيمات الإرهابية٬ وعلى رأسها «داعش»٬ صنيعة إهمال سياسي وثقافي شامل.. أّسها غياب الإصلاح الديني. فالمؤسف أن تكون أفكار «داعش» البديل الأول للمحبطين من الأوضاع المتردية. ومن المحزن٬ رغم كل ما يحدث٬ أن ملف مساءلة مرحلة الحرب على الإرهاب ما زال معلًقا على مفاهمة سياسية وصيغ توافقية ترضي كل الأطراف٬ وتحقق لها منافع بعيًدا عن المشكلة الأساسية٬ وكلما طال زمن الدم والضحايا والأبرياء الذين يقعون ضحايا لهذا الارتباك الدولي٬ مثل ذلك دعاية مثلى لصناعة مظلومية إنسانية تعد أفضل سلاح للتطرف والإرهابيين على حد سواء.