كان النجاح حليف وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل خلال اليومين الماضيين وهو يتنكب مهمة القاء الاضواء الساطعة على توجه اممي تجلى في طيات بيان من 39 صفحة للامين العام للامم المتحدة بان كي – مون لمسمّى “ادماج” اللاجئين او منحهم تشريعا قانونيا يوفر لهم البنية التحتية الملائمة لتسهيل ظروف اقامتهم، وخصوصا التعليم والطبابة وفرص العمل والاقامة على نحو يجعل امر تجنيسهم لاحقا حقا مكتسبا وامرا واقعا لا مفر منه بموجب الاعراف والقوانين الدولية المرعية الاجراء.
فالتحذيرات التي اطلقها باسيل جذبت اهتمام المعنيين وأحدثت دويّا لن تنتهي تردداته واصداؤه في وقت قريب على رغم مسارعة الامم المتحدة الى انكار ان يكون التقرير الذي أعدّه رأس الهرم فيها ينطوي على دعوة الى توطين اللاجئين السوريين في لبنان او تجنيسهم او منحهم تشريعا يجعلهم قاب قوسين من هذه الصفة وذلك انطلاقا من الوقائع الآتية:
– ان الهواجس من توطين اللاجئين السوريين في لبنان مزمنة ومتراكمة ولها من الوقائع الصارخة ما يبررها ويسوغ نهوضها امرا مثيرا للسجال والجدال بين فينة واخرى. فالتوطين فعل مارسه كل الوان الطيف السياسي والطائفي اللبناني منذ مطالع عقد الخمسينات الى صفقة التجنيس الكبرى المدوية في منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي. فالنخبة السياسية المسيحية جنّست وعلى فترات متفاوتة ما يقارب من اربعين الف فلسطيني مسيحي وما يعادلهم من مجموعات مسيحية قدمت من سوريا والعراق ومصر والاردن. والنخبة السياسية السنية كانت لها الحصة الكبرى في فضيحة تجنيس 300 الف شخص في عهد الرئيس الياس الهراوي وكان بينهم ما لايقل عن ثلاثين الف لاجئ فلسطيني، فضلاً عن أعداد اكبر من السوريين والاكراد “والعرب” السنّة، في حين تمكنت النخبة السياسية الشيعية في ظلال حملات التجنيس المتعاقبة من تمرير تجنيس نحو 40 الف شيعي فلسطيني، اي ما صار يعرف تاريخيا بأبناء القرى السبع، اضافة الى بضعة آلاف من العلويين في الشمال ومن العراقيين.
وهكذا لا يستطيع اي فريق ان يغسل يديه من دم هذه المسألة الحساسة وان يتطلع الى الآخرين على اساس انه منزّه عن المشاركة الخفية تارة والمعلنة تارة اخرى في كسر حرمة التجنيس وفي اعطاء الجنسية اللبنانية لما يقرب من نصف مليون انسان، مما افقد الجنسية اللبنانية مزية انها الأعلى قيمة في العالم وانها لا تؤخذ بسهولة ولا تعطى بيسر، فضلا عن ان هذا التجنيس الواسع نجح في تبديد الهوية السياسية والدينية لمدينة مثل زحلة وهو ما تجلى اكثر ما يكون في انتخابات عام 2009، اضافة الى تحولات في المعادلات السياسية والانتخابية في مناطق اخرى.
– ان ما اثاره الوزير باسيل اسكت بعض القوى عن ترداد انه “كلام حق يراد منه باطل”، او انه فزاعة ترفع على رؤوس الاشهاد كلما حلا لفريقه السياسي ان يأخذ الامور الى منحى يخدمه هو. فالوزير باسيل، بحسب شخصية قانونية بارزة في “تكتل التغيير والاصلاح”، اعتمد في مطالعته بشكل اساس على تقرير لبان كي – مون وقع عليه ابان زيارة له الى فيينا وتحدث عن ضرورة ادماج اللاجئين السوريين وتوفير تسهيلات الاقامة اللازمة لهم، وهو امر لم يأتِ المسؤول الاممي به من عندياته بل انه استلهم من صلب بنود معاهدات ومواثيق دولية تختص بموضوع اللاجئين وفي مقدمها معاهدة 1951، اضافة الى ان ورود بند عن “العودة الطوعية للاجئين” من شأنه ان يعزز المخاوف ولا يبددها.
الى ذلك، ثمة دعوات الى توطين اللاجئين وردت على لسان اكثر من مسؤول اممي قبل تقرير بان وبعده، منها كلام المدير العام للبنك الدولي (وهو كوري جنوبي) وتصريح ممثلة مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان ميراي جيرار وآخرين من الاتحاد الاوروبي، وكلها ركزت على ما يسمى الادماج في المجتمعات المضيفة تحت شعار حقوق الانسان، وهو ما يقود في خاتمة المطاف الى جعل التجنيس امرا واقعا.
ثمة ولا ريب من يحاول عقد مقارنة بين موضوع اللاجئين السوريين وبين اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان الذين لم يجنسوا على رغم وجودهم بين ظهرانينا منذ 68 عاما، ولكن الوضع مختلف، تجيب الشخصية القانونية البارزة نفسها، فاللاجئون الفلسطينيون هجروا ارضهم قسرا بفعل احتلال، وهم والقرارات الدولية ذات الصلة متمسكون بما يعرف بـ “حق العودة”، فضلا عن ان الدستور اللبناني نص صراحة في مقدمته على رفض توطينهم.
اما بالنسبة الى اللاجئين السوريين فهناك مخاطر كامنة من ان يفرض على لبنان ادماجهم وتجنيسهم تحت ذرائع ووقائع شتى منها:
– مضامين النصوص والمعاهدات الدولية ذات الصلة بمسائل اللجوء والنزوح وهي تفرض فرضا ولا يمكن الاعتراض عليها.
– استمرار اعمال الاقتتال والمواجهات في سوريا وانسداد الافق امام الحلول السياسية التي تعيد الهدوء الى البلاد وتسمح بعودتهم اليها.
– بند العودة الطوعية المنطوي على اكثر من معنى مما يعني تحريم اعادة اللاجىء اذا كان لا يريد هو العودة الى حيث اتى.
– ظروف الجذب الاقتصادي وتوفر سوق العمل للاجىء بأجور عالية قياسا ببلادهم.
وترى الشخصية عينها ان ثمة عاملا آخر يساهم في ارتفاع منسوب الخوف من التوطين وهو ضعف الاجراءات العملية المضادة التي يتعين على الحكومة اللبنانية اللجوء اليها للحيلولة دون انفاذ التوجهات الاممية، من قبيل:
1 – تشديد اجراءات الاقامة والعمل.
2 – عدم اعطاء شهادات ميلاد ووفاة لبنانية من خارج سجلات الاجانب.
3 – الامعان في رفض التواصل مع الجهات السورية الرسمية المعنية لاتخاذ الاجراءات المشتركة التي من شأنها مساعدة لبنان في عملية مواجهة التوطين خصوصا امام المجتمع الدولي. وتختم الشخصية عينها بأن الذي لا يسيّج حدود كرمه وارضه جيدا فهو لن يأمن ان يُسطى عليه ذات يوم ويستباح. وبالاجمال فان اجراءات الحكومة لجبه سيف الادماج والتوطين المصلت لا ترقى الى مرتبة خطورة الامر، وعلى الحكومة ألا تركز على انتقاد بان كي- مون لان الرجل يعتمد على اسانيد قانونية دولية، بل عليها اتباع خريطة طريق عملية وجادة وممنهجة من شأنها ان تبدد هواجس المهجوسين وتبعد عن لبنان تجرع هذه الكأس البالغة المرارة.