طغت الأحاديث حول تفكير رئيس الحكومة تقديم استقالته، وقلب الطاولة على معطلي جلسات مجلس الوزراء، ومعرقلي انتاجية الحكومة، على كل ما عداها من أحداث وتطورات، بما فيها أزمة النفايات المفتعلة، التي اجتاحت شوارع العاصمة بجبال من الزبالة، وزادت الأمور تعقيداً فوق تعقيد!
فهل كان الرئيس تمام سلام بوارد الاستقالة جدياً، أم كانت مجرّد عملية تكتيكية لإشعار الأطراف السياسية بمخاطر استمرار خلافاتهم وصراعاتهم على المكاسب الشخصية والفئوية، على حساب مصالح البلاد والعباد؟
الذين قابلوا رئيس الحكومة خلال الأسبوعين الماضيين، شعروا بمدى الضيق الذي يهيمن على أجواء السراي، وأدركوا خطورة نفاد صبر الرجل، الذي استطاع بحكمته وطول أناته، أن يتغلب على المشاكسات والمناورات، داخل مجلس الوزراء وخارجه، ليحافظ على الأمانة التي تنوء بحملها الجبال، كما قال عنه مفتي الجمهورية في خطبة العيد، وليمرّر مرحلة الشغور الرئاسي وتعطيل التشريع في مجلس النواب، بأقل قدر ممكن من الخسائر.
حاول التصدّي، بكل هدوء، لمحاولات تعطيل جلسات مجلس الوزراء، وعندما وصلت الصفاقة بالصهر المدلل جبران باسيل إلى أن يتطاول على مقام رئاسة الحكومة، ويقلل الأدب مع رئيس الحكومة، كان لا بدّ من المواجهة الصاعقة التي أعادت الأمور إلى أحجامها الطبيعية، وصانت النصوص الدستورية لصلاحيات رئيس الحكومة من كل تشويه، أو تفسير مُغرض، استعانوا بحركات سخيفة في الشارع، للترويج له، وتضليل شريحة واسعة من اللبنانيين تحت شعار «الدفاع عن حقوق المسيحيين»!
تجاوب رئيس الحكومة، مرّة أخرى، بعد «موقعة» مجلس الوزراء الشهيرة أمام الإعلام، مع مساعي التهدئة، وأعطى مجلس الوزراء «إجازة الأسبوعين»، على أمل أن تفلح مساعي الوسطاء في إخماد انفعال الحليف المتوتر! ولكن الجلسة الأولى بعد إجازة عيد الفطر، بقيت أسيرة الطروحات الهمايونية، والمناقشات البيزنطية، الأمر الذي أدرك معه رئيس الحكومة، بأن المسألة «فالج لا تعالج»، وأن النوايا ليست صافية، وأن التعطيل يكاد يصبح نهجاً للأطراف التي تُغلّب مصالحها على مصالح الوطن، ولا تراعي الظروف الحرجة التي يمر فيها البلد، والتي أوصلت الأوضاع الاقتصادية والمالية إلى حافة الانهيار.
* * *
على خلفية هذا الواقع، وسياسة العناد التي ينتهجها التيار العوني في تعطيل الحكومة، إذا لم يرضخ رئيسها ومعه مجلس الوزراء مجتمعاً، لشروط الرابية بإقرار التعيينات الأمنية، وإلا «ستين سنة على البلد ومجلس الوزراء»، كان من الطبيعي أن يفكر رئيس الحكومة بالاستقالة، وليتحمّل كل طرف سياسي وزر ما تسببه سياسته من أزمات وكوارث في البلد.
لم يكن الرئيس تمام سلام بحاجة لمن يذكره بخطورة استقالته، وتحوّل المؤسسة الدستورية الوحيدة الباقية على قيد النشاط، إلى درجة تصريف الأعمال، في ظل هذا الشغور المُعيب في رئاسة الجمهورية، وهذا الإمعان المتمادي في تعطيل مجلس النواب.
ولكن… ما نفع الاستمرار في عقد جلسات مجلس الوزراء طالما استمر هذا التعطيل الممنهج لإنتاجية الحكومة؟
ماذا يعني وجود حكومة عاجزة عن اتخاذ أبسط القرارات، بسبب هذا الإصرار غير المسبوق على تغليب الشلل الكامل في مؤسسات الدولة الدستورية؟
ولماذا يتحمّل رئيس الحكومة المسؤولية عن الطرف السياسي الذي يضرب بالنصوص الدستورية عرض الحائط ، ويريد فرض إرادته على بقية مكونات الحكومة؟
ألم تتحوّل الحكومة في الفترة الأخيرة إلى أشبه بحكومة تصريف أعمال، بعدما أصر بعض الأطراف السياسية على التمسك بالإجماع على كل القرارات، وعلى اعتبار كل وزير بمثابة رئيس للجمهورية، على نحو ما أعلنه باسيل في جلسة المواجهة في مجلس الوزراء؟
* * *
صحيح أن استقالة الحكومة تُحوِّل لبنان إلى دولة فاشلة، وكاملة الأوصاف بالفشل الذريع، ولكن عجز الحكومة عن تأمين الرواتب، وإبرام الاتفاقيات المالية والمساعدات الإنمائية مع دول عربية وأوروبية، وعدم قدرتها على تجديد إصدار سندات خزينة، لسداد ما يستحق منها في الأسابيع القليلة المقبلة، فضلاً عن انفجار أزمة النفايات بهذا الشكل المريع.. كل ذلك ألا يعني أن لبنان تحـوَّل دولة فاشلة فعلاً، بسبب صراعات الديوك بين مكوناته السياسية، والذهاب بعيداً في لعبة المحاصصة والمنافع الجشعة، ولو أدى ذلك إلى تقاسم النفايات وكنوزها المخفية؟!
* * *
يستقيل.. أو لا يستقيل رئيس الحكومة ليست تلك هي المشكلة!
المأساة الحقيقية في هذا الوطن المعذب، تكمن في إفلاس الطبقة السياسية، وغياب المشروع الوطني، وتورّط الجميع في لعبة المصالح الفانية!!