Site icon IMLebanon

إستقالة بلون الإنقلاب!

 

مِن الصعبِ وصفُ الشعور الذي انتابَ الرئيس نبيه برّي عندما تلقّى خبرَ استقالة الرئيس سعد الحريري. شعورٌ وصَل إلى حدّ “الخبط” على الرأس مقروناً بسؤال: ما الذي يفعله؟

تلقّى برّي الخبرَ بينما كانت الطائرة آخذةً بالهبوط التدريجي في مطار شرم الشيخ. للوهلةِ الأولى لم يُصدّق ما يَسمع، على الفور سارَع إلى الاتصال برئيس الجمهورية ميشال عون فتبيَّن أنّ عنصر المفاجأة سقط ثقيلاً أيضاً على القصر الجمهوري.

فقبل مؤتمرِ الاستقالة، اتّصَل الحريري برئيس الجمهورية، ولم يُبلِغه بقرار الاستقالة، فقط قال له أريد أن أعقدَ مؤتمراً صحافياً، وهكذا أقفلَ رئيس الجمهورية سمّاعة الهاتف منتظراً ما سيقوله الحريري. إنتظر أنّ يقول كلّ شيء إلّا أن يعلنَ استقالته.

أطلَّ الحريري وتلا بيانَ الاستقالة، فوقفَ الجميع عند مثلّث الحيرة. بضلعِه الأوّل المتعلق بمضمون البيان ولهجته العنيفة وغير المتوقّعة، والذي حوى عباراتٍ وجملاً ومفردات بدا أنّها لم تُصَغْ بـ”الحِبر الحريري” بل بحِبر المكان الذي كان فيه.

وبضلعِه الثاني المتعلّق بتوقيت الإقدام على خطوة الاستقالة، وبضلعِه الثالث المتعلق بالمكان الذي أعلِنَت منه الاستقالة، والسؤال الذي لا يزال بلا جواب: لماذا هذا المضمون العنيف ولماذا الاستقالة في هذا التوقيت، ولماذا أعلِنت من السعودية؟

إنتهى اتّصال برّي بعون، فسارَع رئيس المجلس إلى الاتّصال بوزير الداخلية نهاد المشنوق، فكان متفاجئاً بما حصَل وليس لديه ما يقوله. ولم يكن يملك حتى سبباً افتراضياً من شأنه أن يدفعَ الحريري إلى خطوة من هذا النوع. لم يكن الجوّ يَشي بأمرٍ مِن هذا القبيل على الإطلاق، وفي الخلاصة كلُّ الأمور تتوضّح عندما نرى الرئيسَ المستقيل.

صار الهاجس الأساس لدى برّي هو الشارع اللبناني، خصوصاً أنّ أجواء الإرباك والقلق كانت تتراكم بسرعة، حتى بدا وكأنّه بَلغ حافة الهاوية. وهنا كان لا بدّ من التقاط الوضعِ قبل أن يفلت من أيدي الجميع.

وأوّلُ ما يجب فِعله هو ضبطُ الخطاب وعدمُ فتحِ المجال لأيّ كلمة من شأنها أن تصبَّ الزيت على نار الأزمة التي لا سابقَ لها في تاريخ لبنان. ومن هنا وزّع التمنّيات في غير اتّجاه: “المكان الآن هو للحكمة وللعقل والرويّة حتى لا يسقطَ البلد”، وأتبَع ذلك باتّصال بمفتي الجمهورية، والأجواء كانت جيّدة وجمعَتهما أولوية لمِّ الوضعِ، والأمر نفسُه كان مع رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان.

في هذه الأثناء كان لبنان يضجُّ باشاعات عن أنّ الحريري محجوز وفي الإقامة الجبرية في السعودية، رئيس الجمهورية سارَع إلى الاتّصال بأمير الكويت واعتذرَ عن عدم تمكّنِه مِن إتمام سفرته إليها. تفهَّمَ الشيخ صباح وتمنّى لرئيس الجمهورية أن يوفَّقَ في تجاوزِ الأزمة في لبنان. عون وبناءً على تقدير شخصيّ منه أو معطياتٍ أو معلومات، كان ميّالاً للاعتقاد بأنّ الرَجل محجوز، ولأنّ قبولَ الاستقالة فوراً قد لا يكون محموداً في هذا الجوّ الساخن كان لا بدّ مِن وضعِ هذا الأمر على رفّ الانتظار، أقلُّه لنرى ماذا لدى الحريري، مع أنّ هذا الانتظار قد يَطول ربّما طويلاً جداً.

برّي كان يتتبَّع أجواءَ لبنان لحظةً بلحظة. ورَدت في ذهنه فكرةُ قطعِ الزيارة والعودة إلى بيروت، لكنّه فضّلَ الانتظار. فالحريري سيصِل إلى شرم الشيخ، إذ لديه موعد مع الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، وقد سبَقه إلى الشرم فريقُه الإعلامي وبعضُ المعنيّين بترتيبِ الزيارة، والسفارةُ اللبنانية أعدَّت كلَّ إجراءاتها المتّصلة بها، على اعتبار أنّ الحريري سيصِل الأحد، وإن التقى السيسي الأحد يعود في اليوم نفسِه إلى بيروت، وإذا لا فسيَبيتُ ليلتَه ويلتقي الرئيسَ المصري الاثنين ويعود في اليوم نفسِه إلى بيروت.

برّي والحريري اتّفَقا قبل مغادرتهما بيروت على أن يلتقيا في شرم الشيخ بعد وصول الأخير إليها، وهو لقاء عاديّ، إلّا أنّ حدَث الاستقالة جعلَ برّي يَعتبر لقاءَه المتّفَق عليه مع الحريري فرصةً لمعرفة ماذا لدى الرَجل، ولعلّه يتمكّن من إصلاح ما يمكن إصلاحه.

ولكنّ الرياحَ جرت في اتّجاه معاكس. الحريري ألغى زيارتَه إلى شرم الشيخ، وفريقه – في السعودية أو بيروت – طلبَ مِن السفارة اللبنانية أن تقوم بما عليها لترتيبِ الإلغاء، فكان ذلك، علماً أنّ حديثاً غيرَ مؤكَّد تردَّد بأنّ “اتصالاً لإلغاء الزيارة” ورَد إلى الرئاسة المصرية من السعودية، ولم يوضِح هذا الحديث هويّةَ المتصل سواء أكانَ الحريري نفسه أم “أحد ما” من السعودية، أم من السفارة المصرية في الرياض.

أثار هذا الإلغاء مزيداً من الشكّ لدى برّي وزرَع فيه أكثرَ مِن علامة استفهام. لأنّ زيارة الحريري إلى شرم الشيخ فيما لو تمَّت فستُبدّد الكثيرَ من علامات الشك والاستفهام التي أثيرَت حول موضوع الاستقالة، بل ينفي ما بدأت تتناقله الألسُن في لبنان من أنّ الرَجل محتجَز.. أمّا وأنّ الزيارة، ألغيَت فهذا يُعزّز أو ربّما يُعطي مصداقيةً للشكوك التي قالت إنّ الحريري محتجَز، وإنْ صحَّ ذلك فإنّ احتمالَ عودته إلى بيروت ضعيف.

وأضعفَه أكثر أنّ الحريري نفسَه لم يُشِر إلى أنه ينوي العودةَ في المدى المنظور، وعدم العودة معناه كما يقول برّي “أنّ المسألة كبيرة وليست سهلة”.

يُردّد برّي “أنّني لستُ مصدِّقاً ما جرى. فالحريري لم يكن في هذا الوارد على الإطلاق، بل على العكس، كان أداؤه حتى ما قبل سفرِه يَسير على خط الحفاظ على الحكومة، سافرَ في الزيارة ما قبل الأخيرة إلى السعودية وعاد منها مرتاحاً وبأجواء أكثر مِن إيجابية وتطمينية من أنَّ المملكة حريصة على استقرار لبنان وعدمِ الإخلال به.

ونَقل الى المسؤولين اللبنانيّين كلاماً أكثر مِن مشجّع مِن وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وفي جلسةِ مجلس الوزراء الأخيرة، عكسَ كلاماً في منتهى الإيجابية. أكثر من ذلك، في الجلسة الأخيرة للجنة قانون الانتخاب كان حريصاً على احتواء أيّ مشكل وتبديدِ سوءِ التفاهم بين بعض الوزراء. وفي هذه الأجواء المريحة داخلياً، سافرَ إلى السعودية حيث دحرَج كرةَ نار.

المسألة ليست سهلة، يقول برّي، ولا أحدَ يستطيع أن يُقدّر ماذا يمكن أن يحصل وإلى أين يمكن أن تصل هذه المسألة، لا أحد يعرف. ولا يجد ما يُقال أمام هذه الحال سوى: “أللهمّ لا نسألك ردَّ القضاءِ وإنّما نسألك اللطفَ فيه”.

إنْ شاءَ الله تكون المسألة ضِمن هذه الحدود، فعندها يمكن العلاج حتى ولو كان صعباً، إنّما ليس مستحيلاً، والّا تكون أبعد من استقالة. فعندها تصبح المسألة شديدةَ التعقيد ولا نعرف إلى أين يذهب البلد.

ويضيف: “واللهِ حرام البلد، لا يجوز أن يتمّ التعاطي معه بهذا الشكل. أولى تداعيات الاستقالة تعطيلُ الدولة، وخسارات كبرى، كنّا خلال هذا الأسبوع سنبدأ بالتلزيم الجدّي للنفط. الآن كيف نُلزّم؟

وأمّا مجلس النواب ففي هذا الوضع يصبح مشلولاً مع أنّ لي قراءةً وقناعة بأنّه لا يجوز أن يتعطّل المجلس تحت أيّ ظرف، والخشية الكبرى في هذا الجوّ أنّ لغة الطائفية هي التي تتحكّم بالبلد في كلّ مفاصِله، وصولاً إلى مجلس النواب، الوضع الذي نحن فيه ليس سهلاً أبداً، وكيف سنتجاوزه… لا أعرف.

أخطرُ ما يخشى برّي منه، أن يؤدّي كلُّ هذا الذي يجري إلى شَقِّ البلد: “أنا لديّ معلومات أكيدة بأنّ الولايات المتحدة وروسيا تمنَعان إسرائيل من أيّ عملٍ عدواني، وهذا الذي يَجري يمكن أن يشقّ الداخل، وشَقُّ الداخل يستدعي إسرائيل وعدوانها”.

سؤال بديهي يُطرَح على برّي: “هل طارت الانتخابات النيابية”؟ وهل تستطيع حكومة تصريف أعمال أن تجريَ الانتخابات؟ فأجاب بالنفي لاحتمال طيران الانتخابات، فحكومة تصريف الأعمال تستطيع إجراءَها.. الحمدلله أنّنا ألّفنا هيئة الإشراف. في أيّ حال قبل أن نصل إلى الانتخابات، يجب أن ينصبَّ العمل والجهد كلّه للخروج من هذه الأزمة.

أخبار بيروت تتوالى، وكلام كثير يُقال مِثل:

– الحريري قام بانقلاب، إنّما السؤال؛ الانقلاب على مَن: على الواقع السياسي أم على نفسِه أم على البلد؟

– الجيش والأمن العام والأمن الداخلي أعلنوا أنّ تحقيقاتهم ومتابعاتهم لم تُبيّن أبداً أنّ ثمّة تحضيرات أو محاولات لاغتيال شخصيات لبنانية.

– من الرياض إلى بيروت غيومُ الاستقالة متراكمة… وأسئلةٌ كثيرة ما زالت تحاول اختراقها “هل استقالَ الحريري طوعاً؟ هل استقالَ كرهاً؟” هل الاستقالة مجرَّد غبارٍ ثقيل لحجبِ أمورٍ أثقل منها تحصل “في مكان ما”، أو يُمهّد لأمور أخطر؟