يتواتر طرح تفعيل حكومة تصريف الاعمال بهدف «تعويمها» في حال تعذّر تأليف حكومة جديدة في المدى القريب بالاستناد الى سوابق تاريخية. ومصطلح «تعويم» لم ينص عليه الدستور في أي موضوع او مادة او اشارة، بل يمكن اعتباره حالة سياسية تقوم على «إنعاش» حكومة اصبحت متداعية وبحكم «الميّت سريرياً»، ما يتيح لها استعادة عقد اجتماعاتها في مركزها ونشاطات وزرائها خارجه كما لو انها لم تعد مستقيلة. ويستند المنظّرين في طرحهم الى سابقتين حصلتا في مرحلة ما قبل اتفاق الطائف في العامين ١٩٧٩ و١٩٨٧، وعليه، هناك عدة جوانب يجب الاحاطة بها في هذا الخصوص.
سوابق «تعويم» الحكومة
السابقة الأولى وقعت إثر استقالة الحكومة الاولى للرئيس سليم الحص في ١٩ نيسان ١٩٧٨ بعد انهيار الوضع الامني في البلاد في عهد رئيس الجمهورية الياس سركيس. آنذاك اعاد الرئيس سركيس تكليف الرئيس الحص في ٢٨ نيسان، الا ان الظروف لم تسعفه بسبب التناحر على التمثيل فيها بين افرقاء نزاعات ذلك الزمان. وبعد مدة تصريف للأعمال زادت على السبعة أشهر، انتهى الامر الى تعويم الحكومة المستقيلة وفق آلية وضعت بالتفاهم بين الرؤساء، حيث ابلغ الرئيس الحص الى الرئيس سركيس اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة الجديدة، فسحب الرئيس منه التكليف، وتراجع عن قبول الاستقالة، فاستعادت الحكومة المستقيلة دورها وشرعيتها كأن شيئاً لم يحدث.
السابقة الثانية حصلت إثر اغتيال رئيس الحكومة الشهيد رشيد كرامي عام ١٩٨٧. للفور اعتبرت الحكومة ساقطة بوفاة رئيسها ولم يكن في وسع رئيس الجمهورية يومذاك امين الجميل تأليف حكومة جديدة تخلفها. انتهى الامر بأن يخلف الوزير السنّي الثاني في الحكومة المستقيلة، الرئيس سليم الحص، رئيسها الراحل، على ان يصير الى توليه تصريف الاعمال الى حين تأليف حكومة جديدة. أصدر الجميّل مرسوم تعويمها بموافقة دار الفتوى وشخصيات سياسية، فكانت السابقة.
دستور الطائف يحول دون هرطقة التعويم
انتفت حالات تعويم الحكومة المستقيلة بعد ان دخل اتفاق الطائف حيّز التنفيذ ورسم حدوداً حالت دون هرطقة التعويم كما حصل في السابقتين: اوّلها أن رئيس الجمهورية لم يعد مرجعية تسمية الرئيس المكلّف تأليف الحكومة، بل مجلس النواب عملاً بالمادة ٥٣ من الدستور التي تدعوه الى اجراء استشارات نيابية ملزمة بنتائجها، يُطلع رئيس مجلس النواب رسمياً عليها، ثم يتولى ابلاغ الشخصية المعنية تكليفها. وعليه، ليس رئيس الجمهورية مَن يمنح التكليف، وبالتالي ليس له أن يسحبه. وليس للرئيس المكلف عندما تتعثر مهمته سوى ان يعتذر عن عدم التأليف، لا ان يتراجع عن استقالة حكومته السابقة. وبذلك أتت المادة ٥٣ من الدستور وتبعاتها تفادياً لتكرار ما حدث عام ١٩٧٩. وثانيها اعتبار الحكومة مستقيلة حكماً عند وفاة رئيسها تبعاً لما نصت عليه المادة ٦٩ من الدستور، تفادياً لاستعادة ما حدث عام ١٩٨٧.
اليوم لا يمكن دستورياً تعويم حكومة تصريف الاعمال التي هي بحكم المستقيلة لأن رئيسها لا يمكنه ان يعود عن استقالته لأنها أتت بحكم الدستور، الذي حدد في الفقرة «أ» من البند الأوّل من المادة ٦٩ منه أن الحكومة تعتبر مستقيلة حكماً بعد استقالة رئيسها، وبالتالي استقالة الحكومة هي بحُكم النص الدستوري الذي لا يمكن خرقه باي قرار او مرسوم من اي نوع كان. وعليه كل كلام عن تعويمها هو «هذيان» وكلام غير دستوري.
تفعيل حكومة تصريف الأعمال
بخصوص «تفعيل» حكومة تصريف الاعمال عبر اجتماعها في مجلس الوزراء، فذلك لا يجوز لأنها أصبحت في حكم المستقيلة. الّا أن هناك اجتهادات تجيز لحكومة تصريف الأعمال ان تلتئم لمعالجة حالات استثنائية جداً تتعلق بمصلحة البلاد العليا، اي مواجهة حالة طوارئ او مواجهة حالة حرب او مواجهة حالات خطيرة، كالحالة الاقتصادية والمعيشية الراهنة، ولكن الدستور لم ينص على ذلك صراحةً وترك المجال للاجتهاد.
لماذا التغاضي عن الحلول؟
في ظل العواصف السياسية والاقتصادية على الساحة الداخلية والإقليمية والعالمية، وبدلاً من التذاكي في اجترار حلول لا دستوريّة والاستخفاف بالناس، من الأجدى أن تستجمع الطبقة السياسيّة إرادة وطنية تدفع باتجاه تأليف حكومة جديدة مقبولة شعبياً قبل أي شيء آخر، وبأسرع وقت، لتمكين الوطن من مواجهة التحديات الراهنة والقادمة.