Site icon IMLebanon

عن شيطنة المقاومة في لبنان

 

 

عملت الماكينة الإعلامية والأكاديمية للغرب الاستعماري عقوداً ولا تزال على تسخيف نظرية «المؤامرة». أرادت إقناع الناس بأن الدول القوية لا تتدخل في شؤونهم، وأن ما يصيبهم ناجم حصراً عما يقومون به هم. ومع اختلال التوازن العالمي على أثر انهيار المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي، انتقل الغرب الى مستوى جديد من الدعاية التي أقنعت مستخدمين لديه بأنهم أحرار لا تابعون. قد يكون من الصعب على كاتب بارز أو مخرج سينمائي أو صاحب مؤسسة نشر أو رئيس تنظيم اجتماعي الإقرار بأنه سار عن وعي أو عن جهل في الطريق الذي رسمه له الاستعمار. والذين يحترفون الإنكار، يتجاهلون عمداً فكرة التحول العميق الذي أصاب الأجهزة الاستخبارية في دول الغرب المتوحشة. كان الصراع مع السوفيات يُلزم الغربيين برفع مستوى الجهد والابتكار والإبداع. طبيعة الصراع نفسها كانت تفرض درجة عالية جداً من المهنية، وإن كان الغرب لم يتخلّ يوماً عن وحشيته. لكن غالبية أجهزة استخبارات العالم الغربي، تعاملت مع سقوط الاتحاد السوفياتي على أساس أنها باتت بلا رادع. وأنها تقدر على القيام بأعمال سهلة لتحقيق هدفها في مواجهة خصومها. وهذا ما جعل هذه المنظومة، بقيادة أجهزة الاستخبارات الأميركية، تنتقل فوراً وخلال سنوات قليلة من أجهزة جمع وتحليل وتقييم المعطيات والقرارات، الى أجهزة قتل مباشر. تدير أبشع عمليات الاختطاف والسجون السرية وعمليات الاغتيال في كل المجالات العسكرية والسياسية والأمنية والعلمية والتجارية. ولجأت هذه الأجهزة الى متقاعدين وخبراء أمنيين من كل العالم، وأقامت لهم الأطر التي تحوّلهم الى مرتزقة وقتلة بالأجرة. ولم تنجح حصراً في تدمير منظومات إدارية وعلمية في بلاد الخصوم، بل عمدت الى إنتاج الحروب الأهلية وتعزيز الانقسامات على خلفيات طائفية وقبلية وجهوية مقابل تمويل كبير كان يتم توفيره من عمليات السيطرة على الثروات في الدول كافة. حتى في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، يجري اقتطاع أموال كثيرة بطرق غير شرعية لتغذية عمل الأجهزة الاستخبارية القذر من حول العالم.

 

 

في لبنان مثلاً، أظهرت دراسة حول المساعدات العسكرية الأميركية للجيش اللبناني أن الأرقام التي تنشرها الحكومة الأميركية حول قيمة المساعدات، إنما تساوي من حيث قيمتها ضعفي ثمن الأسلحة الموردة الى لبنان. ولو قدمت الحكومة الأميركية الأموال الى الحكومة اللبنانية لتتولى هي شراء الأسلحة الأميركية نفسها، لأمكن شراء كميات مضاعفة. حتى إنه جرى اختبار على عيّنة، عندما تم إرسال طلب شراء الأسلحة الأميركية نفسها من الموردين مباشرة، وتبين أنه يمكن الحصول عليها بسعر يقلّ بأكثر من خمسين في المئة عن الرقم المعلن أميركياً. لكن التدقيق الإضافي يُظهر أن الأموال التي تُسحَب من الخزينة الأميركية تحت بند دعم الجيش اللبناني، إنما يصرف منها جزء ثمن الأسلحة، بينما يصار الى استخدام بقية الأموال في أنشطة غير مدرجة ضمن البرامج المعلنة. وتبيّن، كما حصل في العراق وما يحصل اليوم في سوريا وأفغانستان، أن هذه الفروقات إنما تصرف من قبل أجهزة الاستخبارات المتصلة بالجيش أو بالإدارة المركزية للحكومة الأميركية، وهي الأموال التي استخدم قسم منها في لبنان ضمن برنامج تشويه صورة المقاومة بين عامَي 2005 و2010 في لبنان (عدا عن الأموال الواردة ضمن موازنة مكتب «الدبلوماسية العامة» – أي البروباغندا – في وزارة الخارجية).

اليوم، يجهد الأميركيون ومعهم دول من الاتحاد الأوروبي، وبعض الدول العربية الغنية، لبناء وعي عام في لبنان يحمّل المقاومة مسؤولية الأزمة الاقتصادية الخانقة. لكن الغريب ليس أن يبادر أعداء المقاومة والسارقون الحقيقيون الى خطوة من هذا النوع، بل الغريب أن تعمد هذه الجماعات الى المشاركة ضمناً في الحملة على المقاومة من زاوية تحميلها مسؤولية عدم محاربة الفساد. مشكلة هؤلاء أنهم نسوا المسؤولين عن الفساد وصاروا يَحملون على من يفترضون أنه مانعٌ لمحاربة الفساد. وهؤلاء صاروا يشاركون في الحملة على المقاومة. بعضهم يشارك عن وعي وأحقاد، مثل يسار قطر وجورج سوروس، وبعضهم عن غير وعي (حسن النية يفرض قول ذلك) مثل بعض الشيوعيين وبعض المجموعات الشبابية والمنظمات الأهلية التي لا يمكن أن تكون في صف العدوّين الأميركي والإسرائيلي.

المسلسل جرى تزخيمه بعد انطلاق الاحتجاجات في 17 تشرين الأول الماضي في بيروت. الذين قالوا صراحة إن حزب الله شريك في الفساد، كانوا أكثر جرأة من الآخرين الذين تلطّوا خلف فكرة التغيير الشامل والحكومة المستقلة، لكن للهدف نفسه وهو مراضاة الغرب من خلال إبعاد حزب الله عن الحكومة. في الحالتين، انطلقت حملة صارت تتوسع مع الوقت. هاجسها الوحيد شيطنة المقاومة. وبالطبع، فإن قيادة حزب الله ساهمت من خلال بعض السياسات في جعل هذه الحملة تنجح في سحب قسم من الجمهور صوب المنطقة الملتبسة. والأخطاء الفعلية لقيادة حزب الله أساسها درجة التسامح العالية والمبالغ فيها مع حلفائه ومع خصومه المحليين. وبرغم أن لدى الحزب من المعطيات والتقديرات والتشخيص ما يسمح له بتبرير عدم الاصطدام بهؤلاء، إلا أن المشكلة تكمن في كونه تجاهل أن هناك ألف طريقة للضغط على الحلفاء المشاركين في خراب البيت. يعرف حزب الله أنه في الأسابيع الأولى بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين، كان في لبنان قوى سلطوية كثيرة تعيش حالة رعب، وهذا الوصف ليس لي، بل لجهات تعرف دواخل هؤلاء جيداً. وكان الرعب قد وصل ببعضهم الى التفكير في أنواع التضحية المفترض القيام بها منعاً للخسارة الكبرى. كان يمكن في آخر شهرين من العام الماضي، وأول شهرين من عمر الحكومة الحالية، انتزاع الكثير من التنازلات لو أن من يدير الملف تصرّف بجرأة أكبر، وتخلى عن «الواقعية الشديدة» التي تعني عملياً «تراجع الرغبة بالتغيير».

بهذا المعنى، عمل أعداء المقاومة على خطّين متناقضين شكلاً، لكن أهل الشر في أميركا وتوابعها الأوروبية والعربية، لا يهتمون لأي محاسبة. هم قرروا رفع لواء محاربة الفساد. واشتروا جمعيات وناشطين وإعلاميين مباشرة أو بواسطة عصاباتهم اللبنانية إياها. صار هؤلاء يعملون من عواصم الفتنة هذه، حيث لديهم مناصب ومصالح وإدارات. لكنهم أخذوا بنصيحة «المعلم» عدم تشكيل إطار حزبي واضح، لأنه ليس الهدف. ولأن عدم وجوده يتيح أكبر عملية «زعبرة» على صعيد حشد الجمهور. هؤلاء يشتركون جميعاً في أمرين: انتقاد المقاومة، ومحاباة رموز السلطة المالية والمرجعيات الطائفية. وجلّهم من الجبناء الذين يخشون مواجهة المقاومة مباشرة. هم يتذرّعون بالحياد وكل الكلمات الفارغة، لكنهم يخشون المواجهة المباشرة، لأنهم جبناء، وليس لأي سبب آخر. إلا أنهم يعملون بلا توقف على التحريض ضد المقاومة، وعلى رفض الخطاب اليساري الجذري في مواجهة أدوات الاستعمار الغربي المالية والسياسية والثقافية والإعلامية والأكاديمية أيضاً. وهؤلاء هم الذين يروّجون أنهم لا يريدون طرح ملف المقاومة وسلاحها علناً بحجة أنهم لا يريدون الانقسامات السياسية. إنما يفعلون ذلك لأنهم لا يدعمون سلاح المقاومة. وفي حالة النقاش الصريح والعلني، سيضطرّون الى إعلان موقف واضح. وهم بغالبيتهم الساحقة ليسوا مع المقاومة. وأكثرهم سذاجة ذاك الذي يقول بأن سلاح المقاومة يجب أن يبقى لأجل مقايضته مع الغرب وإسرائيل في حال تطلّب الأمر.

 

أعداؤنا يقومون بعملهم بلا كلل، لكنّ فريقنا يحتاج إلى وقفة نقدية لأجل البحث في آليات الردع، لا الانجرار إلى حرب التغريدات

 

 

كل هؤلاء، ينشطون ليل نهار لأجل شيطنة المقاومة. يعملون في خدمة ماكينة دعائية تقودها الولايات المتحدة الأميركية وتموّلها السعودية والإمارات العربية وقطر، هدفها الوحيد والحصري رمي مسؤولية كل مصائب الكرة الأرضية على المقاومة في لبنان. وهؤلاء يتدرّجون في العمل من الانتقاد التقليدي الى الهجوم على العناوين السياسية والوزارية والنيابية. تصوّروا أن بعض هؤلاء لم يقدر أن ينتظر طويلاً ليشنّ حملة على وزير الصحة حمد حسن، تارة باسم التقصير في مواجهة متطلبات أزمة «كورونا»، أو بحجة أنه يريد استبدال الأدوية الغربية بالدواء الإيراني. لكن هؤلاء اضطرّوا مكرهين الى الصمت عن الوزير بسبب دوره في مواجهة المرحلة الأولى من تفشي الوباء. المهم بالنسبة الى هؤلاء تقمص شخصية الرافض لكل ما يصدر عن المقاومة وحزبها الرئيسي. وهم انتقلوا أخيراً الى إطلاق حملة تشويه لمواقف الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، لأجل كسر صدقيته الأكثر قوة عند الجمهور المحب أو الخصم على حد سواء. ومثل الأهل الذين يسترقون السمع على أبنائهم وهم يتندّرون بأخبارهم، فإن بعض رموز الطبقة الحاكمة في لبنان يسترقون السمع على أنصارهم كيف يتمنّون لو «عندنا مثله». وللأسف، يشارك كثيرون حتى من أنصار المقاومة في هذه الحملة عن طريق الخطأ أو الغباء أو حتى التذمر. مثلما حصل مع خطابه الأخير ورفض كثيرين من الكسالى مجرد فكرة أن يجهدوا في العمل لأجل بناء اقتصاد منتج، بينما هم مثل بقية اللبنانيين يريدون أن تصل الأموال والمساعدات الى منازلهم مع رجاء بقبولها. وبعض هؤلاء يهاجم إيران لأنها لا ترسل أموالاً ودعماً إضافياً، وهم لا يريدون استبدال هاتف أميركي بهاتف صيني أو كوري لأن ذلك لا يليق بهم، حتى ولو اضطرّوا الى الاستدانة من أجل ذلك.

 

 

حملة شيطنة المقاومة مستمرة بقوة. وسنشهد تصاعداً يوماً بعد يوم لها. لكن هل الأمر يتوقف عند مستوى التلقّي وانتظار الفرج، أم أن بمقدور حزب المقاومة وإعلامه وحلفائه القيام بعمل أساسه ردعي لا دفاعي، حيث لا يمكن مواجهة هؤلاء بحرب ناعمة من صناعتهم؟ وطالما بقي ملف الإعلام والعلاقات العامة حاضراً كضيف ثانوي على طاولة القرار، فلن ينفع الأمر. وإذا لم يتصدّ للمهمة من هم أهل كفاءة وخبرة، فلن تكون المواجهة ناجحة. ولن ننجح بواسطة مغردين ينتظرون جهوزية الأركيلة وضمان عدم انقطاع الكهرباء والإنترنت قبل المباشرة بعملية حصد اللايكات من أعضاء النادي نفسه.

مع الأسف، ثمة بلادة ونقص هائل في الخيال عند جزء كبير من «ناشطي» أنصار المقاومة المنجرّين إلى حرب التغريدات، وثمة مشكلة أصلية في تعامل العقل القيادي للمقاومة مع البند الإعلامي والدعائي التخصصي، وهي مشكلة تتفاقم يوماً بعد يوم، ليس في لبنان وحده بل في كل مواقع محور المقاومة. وما نواجهه اليوم في لبنان، يراد منه ليس إصابة حزب المقاومة وحسب، بل يراد تعميمه ضد كل فكرة المقاومة في العالم العربي… فهل من يستيقظ ويفكر مرة واحدة بعلاج ضروري في مواجهة آلة الشر العالمية؟