Site icon IMLebanon

تحصين الوطن بلبننة المقاومة والإجماع على دورها

 

 

لم يعُد بخافٍ على أحد أن الأزمَةَ السِّياسِيَّةَ في لبنان، هي أم الأزماتِ، لكونِ الأزماتِ الباقيَةِ ما هي إلاَّ انعكاساتٌ لها.

 

الأزمَةُ السِّاسيَّةُ الحالِيَّةُ في لبنانَ تُردُّ إلى اعتِباراتٍ عِدَّة، نتيجةَ الامعانِ في خرقِ المسلمات الدستوريَّةِ والمبادئ الديمقراكيَّةِ، ولكن أخطرها على الإطلاق يتمثَّلُ في اختِلالِ التَّوازُناتِ الوَطنِيَّةِ الي كانت قائمَةً، وسَعي أحدِ المُكوِّناتِ اللبنانيَّةِ لإحكامِ سَيطَرَتِهِ على لبنان الدَّولةِ، بحيث أصبحَ يختلِطُ على الكثيرينَ تَحديدُ من يُديرُ الحياةَ السِّياسِيَّةَ في لبنانَ وكيف؟ هل رئيسُ الجُمهوريَّةِ الذي قُلِّصًت بعضُ صَلاحِيَّاتِه وأنيطَت بمَجلِسِ الوزراءِ مُجتمعاً؟ أو رئيس المجلس النيابي، والذي يتهم من قبل بعضِ السياسيين، انه يتحكم في عملية طرحِ مُقترحاتِ ومَشاريعِ القوانين على الهيئةِ العامَّةِ وفقَ ما يتناسَبُ مع توجُّهاتِه ورغباته، كما في تمنعه عن اعتماد آلية التصويت الإلكتروني كما ينص عليه الدستور ليتحكم إلى حد كبير في عمليَّة التصويت. او رَئيسُ مَجلِسِ الوزراءِ.

 

ثمَّةَ من يقولُ أن رئيسَ مَجلِسِ الوُزراءِ أضحى خارجَ إطارِ المُنافَسَة، بعد كُلِّ التَّنازُلاتِ التي قدَّمها رؤساءُ الحُكوماتِ المُتَعاقِبينَ منذ اتِّفاقِ الطَّائفِ إلى اليَوم، حيثُ تقلَّصَ دورُ رئيس الحُكومَةِ من مُشكِّلٍ للحُكوماتِ ومُحدِّدٍ لسِياساتِها، ورئيس لمجلسِ الوزراء الذي يُحدِّدُ السِّياسَة العامَّةِ للدَّولةِ كما ينُصُّ الدُّستور، إلى دورٍ أضحى أقرَبُ إلى ساعي البريدِ منه إلى رَئيسٍ لأعلى مَجلِسِ تقريري- تَنفيذيَّ في الدَّولَة. وهناكَ رأيٌّ وهو الغالِبُ يَقولُ بأن القرارَ السٍِياسيَّ المَصيريَّ في لبنان، بما في ذلك قَرارُ الحَربِ والسِّلمِ والسِّياسَةِ الخارِجيَّةِ لم يعد بيد أيٍّ من المَسؤولين في المؤسَّساتِ الدستوريَّةِ، بل أمسى خارِجَ إطارِ سيطرةِ المَسؤولين الرَّسميين، يتحكَّمُ به أحد أطرافِ المُكوِّناتِ اللبنانيِّة،   المُسمى بالثنائي الشِّيعي وبالتَّحديد حِزبِ الله، وحصريَّا «بأمينه العام» أي المُلهمُ الرُّوحي والعقائدي للحِزبِ، مُستفيدا من إمساكِهِ بقرار مُعظَمِ المُكوناتِ السِّياسِيَّة الباقيةِ والكُتَلِ البَرلُمانِيَّة، التي تحرصُ على تلبيَةِ تَوجُّهاتِهِ في مُختلِفِ الميادينِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ والاجتِماعِيَّةِ …الخ تهميشِ دور المكوناتِ الأخرى التي لا تُجاريهِ في خَياراتِه.

 

إن المُشكلةَ السِّياسِيَّةَ الأساسِيَّةَ اليومَ لا تقتصرُ على من يتَحكَّمُ بالقرارِ السِّياسي، إنما في التَّوجُّهاتِ السِّياسيَّةِ التي يتفرَّدُ بها، ويفرِضَها صاحبُ القرارِ على الدَّولةِ اللبنانيَّة، وبخاصَّةٍ في مسألتين جوهرِيَّتين هما: المواقِفِ السِّياسِيَّةِ (غيرِ الرَّسمِيَّة) التي يُعلنُها من وقت لآخر حَولَ ما يَدورُ على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والإقليميَّة و قرارُ الحَربِ والسِّلمِ. الأولى يُتابِعُها المسؤولون الرَّسميونَ عيرَ شاشةٍ عَملاقَة، تُعلنُ المواقِفُ السِّياسيَّةُ المَحلِّيَّةُ والإقليمِيَّةُ والدَّوليَّةُ عَبرَها.ِ أمَّا دَورُ الدَّولة في هذا المجالِ فيقتصِرُ على التَّعامُلِ مع رَدَّاتِ الفِعلِ الدَّوليَّةِ والإقليميَّةِ على المَواقِفِ والتَّهديداتِ التي تُطلَقُ عبرَ الشَّاشَة، أمَّا الثانيَةُ فالدَّولةُ مُغَيَّبةٌ عنها او مُغيِّبةٌ ذاتِها، فهي تأخُذُ العِلمَ بعدَ بدءِ العَمليَّاتِ العَسكرِيَّةِ ومن ثمَّ إنهائها، أمَّا الصَّواريخُ والمُسيَّراتُ والتي يبدو أنها ستكون مِحورَ الاهتِماماتِ الدَّوليَّةِ والاقليميِّةِ مُستقبلا، فلا عِلمَ للدَّولةِ بها او بما يَحصلُ من عَراضاتٍ على ارضها، ويتَصرَّفُ المسؤولون وكأنه ليس للدولة فيها ناقةً ولا جَمل.

 

إن ما يُقلقُ اللبنانيين في المواقفِ السِّياسيَّةِ غير الرَّسميَّة اليوم له أبعادٌ ثلاثة:

 

داخليَّاُ: تتمثَّلُ في الانعكاساتِ السَّلبيَّةِ للشُّعورِ بفائضِ القوَّةِ على تقويضِ المُمارَسَةِ الدِّيمقراطِيَّة، وفَرضِ الخَياراتِ السِّياسِيَّةِ تحت وطأةِ التَّهويلِ المُباشِرِ أو غيرِ المُباشِرِ بالاحتكامِ إلى السِّلاح.

 

إقليميَّا: تتمثًّلُ في الإمعانُ في إقحامِ لبنان في لُعبَةِ المَحاورِ الإقليمِيَّة، ووضعِهِ في موضعِ العَدوِّ أو الخصمِ مع عددٍ من الدُّولِ العربيَّةِ الشَّقيقة، وبخاصَّةً دولِ الخليجِ العَربي، التي لطالما وَقَفَت إلى جانبِ لبنان في المِحنِ التي كانت تُلِمُّ به، سواءُ في إخراجِهِ من آتون الحَربِ الأهلِيَّةِ بإقرار اتِّفاقِ الطَّائفِ، أو بالمُساعداتِ المالِيَّة، أو لكونِ تلك الدَّولِ من أهم أسواق العَملِ الخارجِيَّةِ التي يقصدُها لبنانيون، كما تشكلُ سُوقاً لتصربفٍ العديدِ من المُنتَجاتِ اللبنانيَّة الزراعيَّةِ والصِّناعيَّة.

 

دوليَّا: تتمثَّلُ في إقحام لبنان بصورَةٍ مًباشِرَةٍ أو غيرِ مُباشِرَة في أتون صِراعِ أحلافٍ دوليَّةٍ لا طاقَةَ للبنانَ في تَحمُّلِ تَبِعاتِها، وذلك خدمةً لأجنداتِ خارِجيَّة، واعتِمادِهِ كوسيلةِ ضَغطٍ لتَحسينِ الظَّروفِ التَّفاوضِيَّة، أو ساحَةٍ لمُناكَفَةِ خُصومٍ مُفتَرَضينَ لدَولَةٍ إقليمِيَّة.

 

أمَّا هواجِسُ اللبنانيين من خُروجِ قرار الحَربِ والسِّلمِ عن سُلطَةِ المَراجِعِ الرَّسمِيَّةِ المُختَصَّة، فتكمُنُ في الأمور التالية:

 

إقصاءُ الجيش اللبناني عن مَهامِ الدِّفاعِ عن الوَطَن، وإضعافٌ قُدراتِهِ القِتاليَّةِ على التَّصدي للعَدوِّ تَمهيداً لتَهميشِهِ وإلغاءِ دورِهِ الدِّفاعي المِحوري.

 

المُغالاةُ في تَقديرِ القٌوَّةِ والإمكاناتِ العَسكريَّةِ لدى المُقاوَمَة، وبالتالي الدُّخولُ في مُغامراتٍ غير مَحسوبَةِ النَّتائج، قد تكلِّفُ الوَطنَ غالِيَا.

 

الإنزلاقُ إلى مَعرَكةٍ مع العدو الإسرائيلي، لا يكونُ الجيشٌ اللبناني مُتحسِّباً لها (نتيجةَ الاستِفرادِ في قرارِ الحَربِ) قد تقضي على قُدُراتِه، وتُكبِّدُهُ الكثيرَ من الخَسائرِ البَشرِيَّةِ والمادِّيَّة.

 

بناءُ الاستراتيجيَّةِ الدِّفاعيَّةِ على الإمكانيَّاتِ العَسكريَّةِ للمُقاومَة، وإهمالُ تسليحِ الجيشِ ورَفعِ قُدراتِهِ القِتالِيَّةِ الاستراتيجيَّة، وإن حصلَ وتوقُّفِ إمدادِ المُقاومَةِ بالأسلِحَةِ لسَبَبٍ أو لآخَر، سيتسبب ذلك في انكشافِ لبنان عَسكريَّاً أمام العدو الإسرائيلي.

 

وإذ نُشيرُ لما تقدَّمَ من هواجِسَ وتَساؤلاتٍ ليس من بابِ الافتئاتِ على المُقاوَمَةِ ومن يَقِفُ خَلفَها أو يَدعمُها داخلِيَّاً وخارِجِيَّا، أو بَهدفِ التَّقليلِ من شأنِها وتضحياتِها، إنما من مِنظارِ مواطِنٍ مسؤولٍ لديهِ حدٌّ أدنى من المَعرِفَةِ بالشُّؤونِ العَسكرِيَّة والقِتالِيَّة؛ ويؤلِمُهُ ما يتِمُّ تناقلُهُ كُلَّ يومٍ من مَخاضٍ سياسيَّ عَسيرٍ وانقِساماتٍ حادَّةٍ بسبب سِلاح المُقاوَمَة، وانقِسامِ الرَّأي العامِ اللبناني عاموديَّاً حول هذا السِّلاحِ وأغراضِهِ ودَورهِ مُستَقبَلا، ومدى انعِكاساتِه على الأوضاعِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّة والماليَّةِ والمَعيشِيَّة على لبنان الدَّولةٍ كما على الشَّعب، وبخاصَّةٍ بعدَ أن اتَّسعَ هامشُ تبادُلِ الرَّسائلِ ووتيرتِه، ما بين مُسيَّراتٍ وقاذِفاتٍ نفَّاثةٍ، ما بين العدو الاسرائيلي وحزب الله، اختلفَ المُحلِّلونَ في تفسيرِ أبعادِها، إذ فريقٌ قال  مُجرَّدُ زكزكاتٍ قد تُنذرُ بانفلاتِ الوضعِ عن السَّيطرة، أما البعضُ الآخر فيُصِرُّ على وَصفِها بالمُناغشاتٍ الاستِعراضِيَّة، لتَعزيزِ كُل طَرف موقِعَ الطَّرفِ الآخر داخليَّا، باعتبارها من مُستلزماتِ الاستِثمارِ  الانتخابي لكِليهما.

 

وبناءً عليه، ومنعاً من أيَّةِ تأويلاتٍ تحريضيَّةٍ مُغرِضًة، نُشيرُ مُسبقاً إلى أن مَُقاومَةَ الاحتلالٍ مسألةٌ تُكرِّسُها المواثيقُ الدَّوليَّةِ، باعتبارِهِا حًقٌّ للدُّولِ والشُّعوبِ في الدِّفاع عن نفسِها أو عن شعبها، وذلك بشَتَّى الوَسائلِ المَشروعَةِ المُتاحَة المَعمولِ بها دَولِيَّا، ضِدَّ أيِّ عَدوٍ غاشمٍ، فكيفَ الحالُ في وَجهِ كِيانٍ غاصِبٍ ومُتغَطرِس كالكيان الاسرائيلي.

 

ورُبَّ سائلٍ يَسأل،  بافتراضِ مُقاومَةُ العدو حَقَّاً مَشروعاً لحِمايَةِ الوَطنِ والشَّعب، فهل يُباحُ لها التَّعجرُفُ والتَّجبُّرُ وفرضُ مَشيئتها والتَّسبُّبِ بقَتلِ الشَّعبِ جَوعا او تَحميلِهِ ما لا طاقَةََ له به، جرَّاءَ تفاقُمِ الأوضاعِ الاقتِصادِيَّةِ، أو التَّسبُّببِ بنِزاعاتٍ عَسكريَّةٍ غيرِ مَدروسَة، أو إساءةِ استِعمالِ سِلاحٍها في الدَّاخل، وعليه نؤكِّدُ على الأمورِ التالية:

 

نحن مع وجودِ مُقاومَةٍ لبنانيَّةِ الأبعاد، تُشكِّلُ ظَهيرا داعِما للجَيش اللبناني (لا العكس)، ويكون الشَّعبُ كُلُّ الشَّعبِ داعِما لهُما. نحن مع مُقاومَةٍ تتبنَّى خَياراتِ الدَّولةِ اللبنانيَّةِ وتلتَزِمُ بتَوجُّهاتِ سُلطاتِها الرَّسمِيَّة لا تقفزُ من فوقِها، وتُغلِّبُ المَصلَحَةَ اللبنانيَّةَ على ما عَداها، ولا تَستغِلُّ ما ترى لديها من فائضِ القُوَّةِ لتَطويعِ شَعبِها، او لفَرضِ خياراتِها وإملاءاتها عليه، وألا يُساءُ استِعمالُ سِلاحِها للتَّهويلِ على أهلِها في الدَّاخل، او لتَعطيلِ نتائجِ الانتِّخابات، او لتَشويهِ المُمارَسًةِ  الدِّيمقراطيَّةِ في الدَّولة، او لقلبِ المَعاييرِ بتَحكُّمِ إرادَةِ الأقليَّةٍ بالإكثرِيَّة، ولا تَقمعُ الحُريَّاتِ الفردِيَّةِ بلُغةِ ما قَبلَ السَّحسوحِ وما بعده.

 

ونحن أيضاً مع مُقاومَةِ لا تَرمي الحُرمَ على من يُخالفًها في الرَّأي، ولا تَستغلُّ الدين لتقييدِ خياراتِ الناخبين بتكليفٍ شَرعي، مُقاومَةٍ تَفصُلُ ما بين أدائها في الدِّفاعِ عن ارضِ الوَطن، وبين نَشاطِها السِّياسيِّ كحِزب لبناني داخِلي سياسي لا ميليشياوي، وتُوازِنُ ما بين مُقتضياتِ العَملِ المُقاومِ، وبالتالي مٌتطلِّباتِ الصِّراعِ مع العدو الاسرائيلي، وبين النُّهوضِ بالوَطن، وتوفيرِ فُرَصِ العيشِ اللَّائقِ والكريمِ لمواطِنيه.

 

نحنُ مع مُقاوَمَةٍ تأخُذُ بعين الاعتبارِ هواجِسَ شَعبها، واهتِماماتِ باقي الشُّركاءِ في الوَطن، مُقاومةٌ تُمثَّلُ فيها كُلُّ المُكوِّناتِ الوَطنِيَّة وليست حكرا على فئةٍ دون غيرِها، مُقاومَةٌ انتِماؤها وَطني صَرف، وولاؤها خالِصٌ للوَطن، تُغلِّبُ المَصلَحَةَ الوَطنِيَّةَ وتَجعلَها فَوقَ كُلّ اعتبار.

 

وأخيرا، نرى وجوبَ تَحصينِ المُقاومَةٍ بلبننتِها والإجماعِ على دورِها، نعم لمُقاومَةٍ يُريدُها الشَّعبُ وتُريدُه، يَحترِمُها وتَحتَرِمُه، يَحتَضِنُها وتَصونَهُ، يدعًمُها وتلتزِمُ بتَوجُّهاتِه، ويُكرِّمُ تَضحِياتِها ويُمجِّدُ شُهداءَها ولكنها لا تسعى إلى تركبيِه او تَجويعِهِ أو قَتلِ أبنائهِ نتيجَةً لمُغامراتٍ غيرِ مَدروسَةٍ أو تَنفيذاً لمُصالِحَ خارِجِيَّةٍ لا شأن للوَطَنِ بها.