في كل ملف يتعلّق بالصراع مع العدو الإسرائيلي، تتوجه الأنظار إلى المقاومة لمعرفة موقفها وما الذي تنوي القيام به في مواجهة الاستحقاقات الداهمة؟ وبمعزل عن الاختلافات اللبنانية ورفض قسم من اللبنانيين لها، كفكرة ودور، فإن الجميع، كما العدو نفسه، يتصرف بواقعية شديدة، نظراً إلى ما تملكه المقاومة من قوة يمكن أن تسهّل أو تعطل أي مشروع يتعلق بالتعامل مع قوات الاحتلال.
على مدى 12 سنة من المفاوضات غير المباشرة والوساطات الأميركية والدولية بين لبنان وكيان الاحتلال بشأن ملف الغاز والنفط في البحر، كان الجميع حريصاً على عدم تدخل المقاومة التي كانت على علم بما يفعله أهل الحكم وبما يمكن أن يحصلوا عليه بسبب الطريقة التي اعتمدوها لإدارة المفاوضات. لكنها لم تكن لتتدخل مباشرة في ملف راهن اللبنانيون جميعاً على أنه مصدر رزق يقيهم شر الجوع والعوز.
صحيح أن المقاومة لم تدن أركان الدولة الذين تفاوضوا ووافقوا على مشاريع خطوط بحرية لا تلبي حاجة لبنان، لكن الجميع يعرف أنها ترفض، من حيث المبدأ، أي تفاوض مع العدو. وهي أصلاً لا تعترف بالحدود معه.
ما حصل، ببساطة، أن الحصار الأميركي والغربي الذي اشتد على لبنان منذ وصول الرئيس ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، عزّزته ضغوطات لمنع لبنان من العمل على تحصيل حقوقه في البحر. جرى ذلك على شكل مناورات قامت بها شركات التنقيب العالمية، والحديث عن حدود غير واضحة، ومنع استقدام أي شركة لا توافق عليها الولايات المتحدة وغير ذلك، في وقت كان العدو يعمل من دون توقف في الاستكشاف والتنقيب وصولاً إلى الحفر والاستعداد للاستخراج.
في ذروة الحصار، لم يكن ممكناً للبنان تحصيل أية موارد من دون الخضوع للطلبات والشروط الأميركية والغربية، وقد أُضيفت عليها شروط من السعودية وفريقها في المنطقة تتطابق مع ما يريده العدو. عند هذا الحد، لم يعد في مقدور المقاومة البقاء جانباً، ولم تعد تنفع الملاحظات داخل الغرف المغلقة، ولا الدفع باتجاه تسويات مع مسؤولين يخشون الأميركيين والغربيين طوال الوقت. لذلك، جاءت المبادرة برمي الحجر في البركة الراكدة ورفع الصوت، ليس لتحصيل حقوق لبنان فحسب بل لمنع العدو من تحصيل أي «حق» مفترض له في بحر فلسطين.
لكن إدارة المقاومة لهذه المعركة لم تكن انفعالية أو عشوائية. ومن لا يعرف، عليه أن يعرف، أنه عندما قررت المقاومة التدخل كانت قد تأكدت من جاهزيتها لمواجهة الأسوأ. لذلك، مع إعلان الموقف التحذيري للعدو، كانت المقاومة قد اتخذت قراراً هو الأضخم في تاريخها وفي تاريخ الصراع مع العدو، وجوهره أنها مستعدة للمباشرة، ابتداء، في عمليات عسكرية حتى ولو قادت إلى مواجهة شاملة تتجاوز المنطقة البحرية. وكانت تدرك أن العدو هو أول من سيفهم معنى هذا الكلام، وسيتصرف على أساسه، ما يجعل الوسطاء الغربيين يعدّلون في طريقة تعاملهم مع الملف، كما كانت المقاومة – ولو عن غير قصد – تستهدف القول للمسؤولين اللبنانيين إنه لا يمكن الموافقة كيفما كان على نتائج مفاوضات غير مدروسة حول الحقوق البحرية.
عندما قررت المقاومة التدخل كانت قد اتخذت القرار الأضخم في تاريخ الصراع بالمبادرة بعمليات عسكرية ولو قادت إلى مواجهة شاملة
ما حصل فعلياً، وهو ما ستظهره الأيام القليلة المقبلة، ومن حسن حظنا أن العدو سيساعد في تظهيره أكثر من اللبنانيين، هو أن تدخل المقاومة، وبالحدود التي تدخلت فيها، أمّن للبنان ما لم يكن ممكناً تأمينه بكل أنواع المفاوضات والتذلل للأميركيين والغربيين ولإسرائيل أيضاً.
على أن ما حصل ويحصل يجب أن لا يضع المقاومة تحت المساءلة الكيدية، خصوصاً تلك التي تصدر من أناس يريدون المزايدة على المقاومة وكأنها هي من قرر آليات العمل، أو كان في مقدورها تعطيل كل شيء وحرمان لبنان من فرصة كسر الحصار الغربي. وإذا كان في لبنان من لا يرغب في المن والسلوى إذا جاءا عن طريقها، فإن المستغرب تلك الأصوات التي تحاول الإيحاء بأن المقاومة توفر الغطاء للإقرار بحقوق للعدو.
صحيح أن أحداً لن يسمع الكلام الصريح التالي من قادة المقاومة، ولكن من المفيد الإشارة إليه:
– المقاومة ليست منزعجة من عدم حصول ترسيم نهائي وحاسم للحدود البحرية مع العدو، لأنها تعتبر أنه لا يمكن لها ولا يحق لها التفاوض على أرض تخص الشعب الفلسطيني الغائب عن هذه المفاوضات.
ad
– المقاومة لا تنتظر ضمانات لا من الأمم المتحدة ولا من الوسيط الأميركي لتحصيل الحقوق وتنفيذ التفاهمات، بل تتكل على ما تملكه من عناصر قوة وقدرة على التدخل، شاء من شاء وأبى من أبى، لضمان كامل حقوق لبنان.
– المقاومة لا تريد مواجهات فولكلورية للاستهلاك السياسي الداخلي أو لعمليات تسويق مرتبطة بالانتخابات الرئاسية في لبنان أو خلافه، بل تريد أرضية تتيح الانطلاق في رحلة فك الحصار عن لبنان، وهو أمر سيحصل أكيداً، حتى ولو حاول الأميركيون ومعهم أوروبا التحايل عليه.
– المقاومة، لا تغطي أي خطأ يرتكبه أي طرف في لبنان أو خارجه في ما يتعلق بحقوق لبنان، ولا تلزم نفسها بما يتجاوز الإطار العام الذي يحفظ الحقوق، ومن قال إن لا وجود لضمانة بأن تلتزم أي حكومة إسرائيلية جديدة بالاتفاق، أو يعتقد أن تغييرات تجري في العالم أو في أميركا من شأنها تهديد الاتفاق، عليه معرفة أن المقاومة تملك بيدها من السحر والقوة ما يجعل الآخرين يلتزمون سمعاً وطاعة…
لذلك نثق بالمقاومة!
من ملف : الترسيم البحري: بدء مرحلة التنفيذ