من يرد أن يكتشف ما يمكن أن تفعله إسرائيل إذا سمحت لها موازين القوى والظروف السياسية، فلينظر إلى حصارها لقطاع غزة. ومن يرد تلمّس سياساتها التسووية من موقع الشعور بالقوة، فلينظر إلى سياساتها في الضفة الغربية.
ومن أراد اكتشاف جدوى الرهان على العلاقات الدولية والاتصالات الدبلوماسية، فليراقب الموقف الأميركي من السياسات الإسرائيلية العسكرية والتسووية، والمدى الذي يمكن أن يبلغه الاعتراض الأميركي والغربي على هذه السياسات، إن وُجد فعلاً.
ومن أراد أن يستشرف مستوى التغلغل الذي يمكن أن تبلغه إسرائيل في لبنان، لولا معادلة الردع الحاكمة، فليراجع حجم الدور الإسرائيلي في الساحة اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. ومن أراد معرفة المدى الذي يمكن أن تبلغه إسرائيل في اعتداءاتها وحروبها، فليستذكر حرب عام 2006.
في ضوء ذلك، الحقيقة التي ينبغي أن تكون أكثر حضوراً في وعي اللبنانيين، أن إسرائيل لم تتمكن، خلال السنوات الماضية، من تثمير الحدث السوري وانشغال حزب الله بمواجهة الخطر التكفيري في سوريا، بما يتناسب مع طموحاتها وأولوياتها في الساحة اللبنانية. ولم تتبلور هذه الحقيقة إلا بعد أكثر من محاولة إسرائيلية لفرض معادلات أبعد مدى. وبالتالي لم يمتنع العدو عن الكثير من الخيارات العملانية التي كان يفترض أن يشكل الحدثان الإقليمي والسوري ظرفاً مثالياً لها، إلا في ضوء الرسائل التي استخلصها بعد ردود حزب الله التي تجاوز فيها العدو خطوطاً حمراء على الساحتين السورية واللبنانية. ليس المقصود أن هدف الردود كان مجرد رسائل، بل إن كل رد، ومحاولة رد، جاد وفاعل ينطوي بالضرورة على رسائل تحضر لدى المتلقي وغيره، كما هي الحال مع كل اعتداء إسرائيلي أيضاً.
أدرك العدو أن الواقع الإقليمي والسوري لا يمنع حزب الله من التصدي لاعتداءاته
تأتي هذه الخلاصات ترجمة للمفهوم الذي ينص على أن كل احتكاك عملاني بين طرفين، وتحديداً بين حزب الله والعدو الإسرائيلي، يشكل محطة يمكن أن تُسهم في اختبار صحة التقديرات والمفاهيم التي يتبناها كل من الطرفين إزاء الآخر، في ما يتعلق بالقيود أو هامش المبادرة لديه أو الرد. ولا شك في أن كلاً من حزب الله والعدو الإسرائيلي باتا يملكان في جعبتيهما مخزوناً وافراً من العبر والخلاصات التي ستكون حاضرة لدى دراسة أي خيارات عملانية مستقبلية.
ما تقدم ليس فقط تقديراً يشي به مسار التطورات الميدانية والسياسية التي شهدتها السنوات الماضية، بل هي مفاهيم أقرت بها المؤسستان العسكرية والاستخبارية في إسرائيل. قبل عدة أسابيع قدَّم جيش العدو تقديره للواقع الإقليمي، ومن أبرز ما ورد فيه أن حزب الله، على الرغم من وضعه، «مستعد للمخاطرة». وما يميز هذا التقدير أنه يأتي في ظل احتدام المعركة في سوريا. والأهم أنه أتى بعد فشل كل محاولات التهويل التي اعتمدها قادة العدو الذين تجندوا ضمن خطة مدروسة في إطلاق التهديدات بهدف ردع الحزب عن الرد على اغتيال القيادي سمير القنطار. ومن أهم الخلاصات التي انطوت على العملية الأخيرة لحزب الله في مزارع شبعا، وانعكست في تقدير الجيش، أن إسرائيل أيقنت، مرة أخرى، أنه إذا تجاوز العدو بعض الخطوط الحمراء فإن حزب الله سيردّ أياً كانت التبعات والتداعيات…
قبل ذلك، خلصت الاستخبارات الإسرائيلية بعد الرد الصاروخي لحزب الله في مزارع شبعا، رداً على عدوان القنيطرة مطلع 2015، بحسب ما نقلت «يديعوت أحرونوت» في حينه، إلى أن «من يعتقد أن قتال حزب الله في سوريا سيردعه عن ردود يمكن أن تؤدي إلى حرب شاملة، عليه أن يعيد حساباته».
من أهم نتائج ردود حزب الله وتداعياتها، أن العدو أدرك أن الواقع الإقليمي والسوري لم يبلغ مرحلة يقيد فيها حزب الله عن التصدي والرد على اعتداءاته ومحاولاته فرض معادلات جديدة على لبنان وداخله. وهو ما حرص العدو على رصده منذ بدء الأحداث على الساحة السورية، في محاولة لاكتشاف المحطة الأكثر مثالية للانقضاض، وبادر في هذا السياق إلى أكثر من اعتداء شكل كلٌ منها محطة اختبار لبعض التصورات والتقديرات التي تبنتها جهات في المؤسسة السياسية تحديداً.
رغم أن ما تقدم يفسر جانباً من سياقات امتناع إسرائيل عن اعتداءات أبعد مدى، خلال الفترة الماضية، لكنه لا يلغي حقيقة أنها ستبقى في حالة رصد ومراقبة لحركة التطورات التي قد تتجدد معها الرهانات التي تبني عليها مواقف وتقديرات تترجمها اعتداءات موضعية أو واسعة.
على خط موازٍ، لم تقتصر إنجازات حزب الله، ومعه كل أطراف المحور الذي ينتمي إليه، على معادلة الدفاع التي أرساها ــــ بفضل المبادرة إلى التدخل العسكري في سوريا ــــ في حماية لبنان من خطر «الزحف» التكفيري، بل عطَّل أيضاً محاولة إسرائيل تثمير هذا الخطر، وقطع الطريق عبر تثبيت معادلة الردع وتعزيزها، على سيناريوات أقل ما يمكن أن يُقال فيها أنها تهدف إلى إعادة إنتاج معادلات داخلية لبنانية وإقليمية مغايرة. وهو ما وفَّر للبنان مظلة أمان استراتيجي جعلته يتمتع بقدر معتبر جداً من الأمن، قياساً إلى ما تشهده دول المنطقة التي تلتهب بنيران الإرهاب.