IMLebanon

المقاومة وقضية التغيير السياسي والاجتماعي الداخلي

 

الانفجار الشعبي الذي شهده لبنان في الاسبوعين الأخيرين وضع جميع القوى السياسية الفاعلة، بما فيها المقاومة، في مأزق صعب. من المفيد التذكير بداية أن الأسباب العميقة والبنيوية التي أفضت الى هذا الانفجار هي السياسات النيوليبرالية التي اعتمدتها الفئات الحاكمة في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، وبعضها اليوم يؤيد من دون خجل «مطالب الشعب»، وأن المقاومة لا تتحمّل مسؤوليتها. وبما أن الانفجار الشعبي، أو الحراك كما يحلو للبعض تسميته، يضمّ كتلاً وقوى اجتماعية واسعة ومتعددة، لها مصالح وتطلعات مختلفة وأحيانا متناقضة، كان من الطبيعي أن تتعدد الآراء حول خلفياته ومآلاته المرجوة. تجمع هذه الآراء على أن الفساد والنهب المنظم للثروة الوطنية هما بين أبرز العوامل التي أوصلت البلاد الى حافة الانهيار المالي والاقتصادي، لكنها تختلف على تحديد هوية الأطراف الرئيسية والسياسات التي سمحت بتعاظم الفساد والنهب، وعلى دور العوامل الخارجية في انتاج الوضع الحالي. بعض «الثوريين الجدد» يسارعون الى ابداء «مللهم» من التذكير بما يدور في الاقليم من صراع مستعر بين محور المقاومة والتحالف الأميركي – الاسرائيلي – السعودي، وضرورة الالتفات الى ان هذا الصراع، وما يتخلله من استهداف متعدد الأوجه للمقاومة في لبنان، هو جزء من السياق العام الذي يحكم التطورات الدائرة في لبنان، بما فيها الحراك الاجتماعي. الواقع واحد ولا يمكن تجزئته الى أحد ابعاده دون الآخر. لكن هذه الحقيقة، أي وحدة الواقع، تصح ايضا بالنسبة للمقاومة وحلفائها الفعليين الذين ركزوا على المسألة الوطنية والتناقض الرئيسي مع العدو الخارجي، مع ما يترتب على هذا التركيز من أعباء ضخمة، فجاء الانفجار الشعبي ليفرض المسألة الاقتصادية والاجتماعية على جدول أعمالهم.

 

معظم حركات التحرر الوطني كانت تربط بين انجاز الاستقلال الوطني والتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي لمصلحة الأغلبيات الشعبية، وكان شعار «الأرض لمن يحررها» أوضح تعبير عن هذا الأمر. لا حاجة للتذكير بالظروف والتعقيدات التاريخية والسياسية – الاجتماعية والجيوسياسية التي منعت التلازم في لبنان بين مقاومة الاحتلال والتغيير السياسي الداخلي وقادت الى تسوية بين المقاومة وأقطاب نظام المحاصصة الطائفية اللبناني، أتاحت للأولى التفرغ لمعركتها الرئيسية ضد العدو الاسرائيلي. لا شك أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاه من انسحاب سوري قد أدى الى مزيد من «تورط» المقاومة في الشأن الداخلي، ولكن على قاعدة منطق التسوية اياه. استند هذا المنطق الى تسليم المقاومة بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية، مع بعض الاعتراضات التي اعتمدتها الفئات الحاكمة في البلاد مقابل تأمين الأخيرة لمظلة سياسية لدور الأولى كقوة رادعة لاسرائيل ولمراكمتها للمقدرات في مواجهتها. عملية مراكمة القدرات العسكرية والصاروخية من قبل المقاومة والمحور الذي تنتمي اليه في الاقليم هي جوهر المواجهة المستعرة الآن بينه وبين التحالف الأميركي – الاسرائيلي – السعودي. لا مبالغة في القول أن مآلات هذه المواجهة ستحدد مصائر ومستقبل شعوب المنطقة، ومنهم الشعب اللبناني، لأن نجاح محور المقاومة في الاستمرار بتطوير قدراته العسكرية والصاروخية وما ينجم عنه من تحول في موازين القوى لغير مصلحة اسرائيل سيعزز القدرة على الحد من دور العامل الخارجي الذي كان العقبة الأساسية في وجه استقلال دول المنطقة وتحكمها بمقدراتها ونهضتها في العقود الماضية. وتحاول اسرائيل اليوم، حسب ما كشفه باراك رافيد، مراسل قناة 13 الاسرائيلية، استغلال الوضع الحالي في لبنان والطلب من الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى تجميد مساعداتها لحكومته اذا لم تقم بتفكيك مصانع الصواريخ الدقيقة المزعومة التي بناها حزب الله.

لكن هذه المواجهة المصيرية تدور في ظل دخول الدول القطرية في الاقليم، ومنها الدولة اللبنانية، في طور متقدم من الأزمة الوجودية بفعل تضافر جملة من العوامل الخارجية والداخلية بينها طبيعة الفئات التي «سطت» عليها. الانفجار الشعبي في لبنان ناجم عن استشعار قطاعات واسعة من الشعب لهذه الأزمة الوجودية وما سيترتب عليها من آثار كارثية بالنسبة لها. هز هذا الانفجار أسس التسوية التي ساهمت المقاومة بصياغتها منذ ثلاث سنوات واستقالت الحكومة التي نتجت عنها. المقاومة تجد نفسها أمام تحد شاق وهو التوفيق بين تبني المطالب الرئيسية للحراك الشعبي والمشاركة في انتاج تسوية جديدة تفضي الى تشكيل حكومة في البلاد. قدرتها على الاستمرار بالقيام بدورها الاستراتيجي مشروطة لدرجة كبيرة بنجاحها في التوفيق المذكور. لكن القوى السياسية الوطنية والقطاعات الشعبية المشاركة في الحراك هي من جهتها ايضا صاحبة مصلحة في نجاح المقاومة بهذه المهمة. ليس للقوى والقطاعات المشار اليها اليوم القدرة على احداث تغيير سياسي واقتصادي – اجتماعي جذري في لبنان بسبب ميزان القوى الداخلي والسياق الاقليمي. لكن قيام شكل من أشكال التحالف وتقسيم الأدوار بينها وبين المقاومة، الحراك يضغط في الشارع والمقاومة تضغط من داخل مؤسسات الدولة لتلبية المطالب الشعبية، قد يسمح بانتزاع القدر الأعلى من المكاسب من الفئات المسيطرة. مصلحة المقاومة والحراك تقتضي بناء جبهة وطنية عريضة لانفاذ مطالب الشعب من جهة، والحفاظ على السلاح الذي يحمي لبنان من جهة أخرى.

 

من ملف : حان وقت الحقيقة: من يلعب بالبلاد؟