IMLebanon

المقاومة كسبب للاحتلال… وليس العكس!

قبل أيام٬ في 25 مايو (أيار)٬ حلت الذكرى السنوية لما اصطلح على تسميته منذ عام 2000» عيد التحرير»٬ أي تاريخ انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان. وبعد أيام تحل ذكرى مرور نصف قرن على ما اصطلح على تسميته «النكسة»٬ أي حرب يونيو (حزيران) ٬1967 وهي ما أحسب أنه الحدث المؤسس لكثير من الانهيارات اللاحقة بعده.

بين التاريخين فصول حكاية طويلة لانهيار لبنان٬ من ضمن انهيار أوسع للشرق الأوسط٬ كما يلاحظ عنوان فرعي لكتاب جديد يؤرخ للحظة حرب عام ٬1967 للمؤرخ الإسرائيلي غي لارون.

لبنان اليوم أسير فكرة المقاومة٬ التي للمفارقة ولدت فيه قبل أن يكون هناك احتلال٬ واستمرت فيه بعد أن انتهى الاحتلال.

حين كتبت على صفحتي على موقع «فيسبوك»٬ أنه لولا المقاومة لما كان هناك احتلال٬ أثارت الفكرة عاصفة من الردود المستهجنة والمستنكرة٬ حيث إن المنطق البسيط يعتبر أن المقاومة هي رد فعل على فعل هو الاحتلال. وهو بسيط٬ لكونه منطقاً لا يقيم وزناً لأن يكون الاحتلال في فلسطين والمقاومة له في لبنان٬ أو «الخطة الإمبريالية في العراق» والمقاومة لها في لبنان٬ أو «المشروع السعودي في اليمن» والمقاومة له في لبنان… إلخ!

وهو منطق يكابر على واقعة بسيطة٬ أن لبنان تحول إلى ساحة مقاومة فلسطينية٬ مدعومة من اللبنانيين المسلمين (السنة تحديداً) قبل نحو عقد من وقوعه تحت الاحتلال الإسرائيلي الأول عام 1978.

الجذر الحقيقي لعدم القدرة على الاعتراف بهذه الواقعة الزمنية البديهية هو الخلط المستمر بين أولوية القضية الفلسطينية في العقل القومي٬ وأولوية القضية اللبنانية في العقل الوطني٬ وهو ما أدى فيما بعد إلى دخول لبنان إلى حرب 67 أو نتائجها «من الباب الخلفي»٬ كما عبر ببلاغة استثنائية الراحل غسان تويني.

 هذا ليس عارضاً بسيطاً.هو في الحقيقة مكون يقع في صلب النزاع الثقافي والفكري والسياسي٬ الذي رافق٬ ولا يزال٬ انهيار لبنان المستمر وتعفن فكرة الدولة والوطن فيه. وهو ما لم تسمح لا سوريا ولا الأردن به في بلديهما٬ فكان أن اختار ياسر عرفات لبنان٬ حصناً بديلاً، حين شعر أن الجبهات الأخرى مقفلة أو ستقفل في وجهه.

عشية حرب ٬67 ناور لبنان بفطنة رئيسه شارل حلو ووزير خارجيته فؤاد بطرس٬ وتذرعوا بكل ما يلزم من حجج٬ بما فيها عطلة نهاية ذلك الأسبوع والموعد المقبل لاجتماع مجلس الوزراء٬ لتأخير إعلان انضمام لبنان إلى الحرب٬ معتقدين عن صواب أن الحرب ستنتهي سريعاً. وهكذا حصل.

غير أن نهايات عقد الستينات٬ شهدت انقساماً حاداً بين النخب الحاكمة والنخب الثقافية٬ بين من يعتبر أن أصل الأثمان التي يدفعها لبنان٬ كتدمير طائرات «الميديل إيست» نهاية عام ٬1968 هو احتلال إسرائيل لفلسطين٬ وبين من اعتبر أن الأصل هو العمل الفلسطيني المسلح من لبنان.

الحقيقة أنه لولا المقاومة الفلسطينية٬ وتوقيع اتفاق القاهرة ٬1969 بين الدولة اللبنانية وأبو عمار٬ وإعطاء المقاومة الفلسطينية حقوقاً سيادية في لبنان٬ لما كان هناك احتلال٬ لا في عام 1978 ولا في عام ٬1982 ولما ورثت لاحقاً المقاومات السورية والإيرانية٬ المقاومة الفلسطينية٬ ولما كانت الحروب العبثية المتكررة بين لبنان وإسرائيل من 1993 إلى 1996 إلى 2006 إلى ما قد يأتي في الأفق لا قدر الله.

المقاومة٬ منذ منتصف الستينات٬ هي أصل البلاء٬ وهي ما أفرز عوامل الاحتلال. في هذه المنطقة الشائكة بالمناسبة٬ وقف لاحقاً الإمام موسى الصدر٬ بعد مزايدته «المقاوماتية» على القوى التقليدية الشيعية٬ كالرئيسين صبري حمادة وكامل الأسعد٬ معتبراً٬ حين جد الجد٬ أن المقاومة الفلسطينية هي الخطر على أمن واستقرار الجنوب٬ بما هو ميدان حركته السياسية والاجتماعية. وكان هذا رأياً عاماً شيعياً كبيراً عبرت عنه مسرحية «أيام الخيام» وحواراتها الذكية بين أعيان قرية الخيام الجنوبية وضابط فتح٬ حيث يطلب الأعيان من الضابط الفلسطيني أن يقصف قريتهم بدل قصفه إسرائيل٬ حيث إن القصف الثاني يرتد عليهم وحشية إسرائيلية مكلفة٬ في حين أن في قدرتهم احتمال بضعة قذائف من «فتح» تعطي المقاومة الفلسطينية ماء الوجه٬ ولا تجلب الويل على أبناء الجنوب!!

وهو موقف شعبي يفسر البراغماتية التي تعامل بها شيعة الجنوب تحديداً٬ مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ٬1982 باعتباره خلاصاً من سلاح منظمة التحرير٬ بما يشبه إلى حد كبير موقف بشير الجميل. وهو موقف سيكون لاحقاً في صلب الاقتتال الشيعي الشيعي حول ملف حرب المخيمات٬ بين حركة أمل و«حزب الله».

نجا لبنان من النتائج المباشرة لحرب عام ٬1967 والتي أفضت إلى احتلال الجولان وشبه جزيرة سيناء والقدس الشرقية والضفة الغربية. لكنه لم ين ُج من نتائجها البعيدة.

إذا كان ما يجري في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان والجزائر هو شهادات دامية على نهاية الناصرية وهزيمة عام ٬1967 فإن استواء المقاومة في لبنان٬ كقوة قهر للدولة واستنزاف دائم لمناعة السلم الأهلي٬ هو نصيب لبنان القاتل من هذه الهزيمة.