لا ينسى من عاش تلك الأيام المجيدة من صمود بيروت بأهلها والمدافعين عنها من لبنانيين وفلسطينيين وجنود سوريين ومتطوّعين عرب في مواجهة الغزو والحصار الإسرائيلي العام 1982، يوماً متميّزاً هو «الرابع من آب» المسمّى بمفردات الحرب يومها بـ «معركة المتحف»، وهو المعبر الذي تحوّل في 9 تشرين الثاني 1987 إلى يوم للاحتشاد الوطني والشعبي من شرق العاصمة وغربها ضدّ الحرب الأهلية والتقسيم.
في الرابع من آب الذي أمطر فيه الغزاة الصهاينة العاصمة اللبنانية بحممهم النارية على مدى يوم كامل، لم تتمكن دباباتهم من التقدم أمتاراً قليلة على محور المتحف، وتكبّد الجنود الصهاينة خسائر كبرى، فيما رأى كثيرون في ذلك الصمود الأسطوري للمقاومين تباشير انتصاراتٍ أكبر لمقاومة الغزو والاحتلال بعد أن بدأت تسقط أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر…
وفي الشهر ذاته، بعد عشرة أيام وأربع وعشرين عاماً، بات الانتصار الكبير جليّاً للعيان، حيث لم يعد بإمكان المقاومين تحرير الأرض فحسب، كما كان حالهم في بيروت ومقاومتها وشهدائها ورمزهم الشهيد البطل خالد علوان ورفاقه الشيوعيين والناصريين والقوميين الاجتماعيين، والعروبيين والإسلاميين، ثم تحرير الجبل وصيدا والنبطية وأجزاء من البقاع الغربي، وصولاً إلى الشريط المحتل مع التحرير العام 2000، بل بات أيضاً بإمكان المقاومة أن تنسج معادلة القوة والعزّة للبنان، وهي مقاومة الشعب والجيش والمقاومة، معادلة الردع المتوازن التي رسمتها دماء الشهداء من كل لبنان، شهداء الشعب الموزّعين على كل الأرض اللبنانية، وشهداء الجيش المزروعين في العديد من المواقع العسكرية، وشهداء المقاومة الذي سترصّع حكاياتهم (من عيتا الشعب وبنت جبيل ومارون الرأس وعيترون إلى الطيبة والعديسة وسهل الخيام والغندورية ووادي الحجير) تاريخ لبنان والأمّة مهما حاول المُغرِضون تشويهها أو تجويف معانيها ودلالاتها.
بين 4 آب 1982 و14 آب 2006، وهما يومان في تاريخنا، قبلهما وبعدهما، وبين بيروت وجبل عامل، وهما موقعان في جغرافيا الوطن، وداخلهما وخارجهما، خط متصاعد عصيّ على الانكسار مهما أربكوه بالمخططات، وحاولوا الالتفاف عليه بالعصبيات، وسعوا إلى شيطنته بكل وسائل التشويه.
هذا الخط المتصاعد بتاريخيته المتكررة، وجغرافيته الشاملة لكل مناطق الوطن ومكوّناته، هو أهم ما ينبغي المحافظة عليه وسط هذه الزلازل التي تعصف بالأمّة والمنطقة منذ سنوات.
وأولى الخطوات على طريق الحفاظ على هذا الخط التاريخي تكمن في إدراكنا جميعاً أن هذا الخط هو الضمانة الفعلية لاستقلالنا واستقرارنا، لأمننا وسيادتنا، لمنعتنا وكرامتنا كلما تمسكنا به ازداد وطننا تماسكاً، وكلما ابتعدنا عنه ابتعدت مجتمعاتنا عن خط الأمن والأمان… فحين يقوى خط المقاومة يقوى الجميع، وحين يضعف يضعف الجميع في الوطن، بل يضعف الوطن في الجميع…
وثاني الخطوات بالتأكيد هو أن نقوم جميعاً، مقاومين وسياسيين، قادة ومواطنين، بإجراء المراجعات الضرورية لتحصين التجربة وتطويرها، ولتنقية العلاقات بين مكوّنات المجتمع والأمّة، ولإرساء قواعد المصالحة الوطنية الشاملة، ولاستعادة الأولويات الحقيقية لا الوهمية أو المفتعَلة في جدول أعمالنا جميعاً، والمراجعة المطلوبة ليست تراجعاً، بل هي عكسه تماماً لأن التراجع ضعف وانكسار والمراجعة ثقة بالنفس وقوة وارتقاء.
أما الخطوة الثالثة فتكمن في إيماننا جميعاً بأن أوطاننا لا تقوم إلاّ بالمشاركة، والمشاركة لا تتم إلاّ بالحوار والاعتراف بحاجة الوطن لكل مكوّناته، والحوار لا ينجح إلاّ في أجواء من الحرية والموضوعية والتحرّر من أسر الماضي وصراعاته، ومن نهج إقصاء الآخر وأوهامه.
(&) المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية