من يريد ان يدخل الحرب يدخلها في بداياتها لا نهاياتها سوى في حالة واحدة وهي اضطراره مرغماً دخولها بسبب توسّعها باتجاهه بإرادة خصمه لا إرادته. أكّدت حرب «طوفان الأقصى» المؤكّد بأنّ محور الممانعة ليس انتحارياً، إنما يعمل وفق براغماتية عالية، فإذا وجد نفسه أمام خسارة حتمية لا يلجأ إلى سياسة الأرض المحروقة على قاعدة «عليّ وعلى أعدائي»، إنما يحاول الحدّ من الخسائر من منطلق انّه طالما الخسارة واقعة ولا مفرّ منها يجب حصر تداعياتها بأي ثمن من أجل التهيئة لجولات أخرى مستقبلاً تعوّض فيها الهزيمة بانتصارات أخرى.
ولو كان محور الممانعة انتحارياً لكان شكّل «طوفان الأقصى» مناسبة لترجمة الشعار الذي ملأ به الدنيا في السنوات الأخيرة والمتمثِّل في «وحدة الساحات» ودفعه إلى انخراط إيران وأذرعها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان في حرب شاملة، الأمر الذي لم يحصل ولا مؤشرات إلى حصوله، وقد تمّ استبداله بخطوات الحدّ الأدنى رفعاً للعتب، حيث لجأ «حزب الله» إلى ما سُمّي «قواعد الاشتباك»، وأطلق «الحوثي» صواريخه باتجاه إسرائيل ليسجِّل دخوله في الحرب عن بُعد ولو بصفر تأثير، واستهدفت الميليشيات العراقية القواعد الأميركية من دون تكبيدها خسائر تُذكر تجنّباً للردّ الأميركي، والنظام السوري فاقد للتأثير أساساً وأولويته تثبيت استمراريته بعد حرب غزة بمعزل عن تداعياتها على الحدّ من الدور الممانع في المنطقة، وأما إيران فتكتفي بالمواقف المتناقضة بين استقلالية أذرعها وعدم انخراطها في الحرب، وبين انّ توسيع نطاق الحرب أصبح أمرًا لا مفرّ منه.
ولا تستطيع إيران المزايدة إطلاقاً على الدول العربية التي خاضت مجتمعة ثلاثة حروب ضدّ إسرائيل: 1948 و 1967 و 1973، فيما طهران لم تَدخُل يوماً في مواجهة مباشرة ضدّ تل أبيب، ولم تُدخِل محورها في حرب شاملة ضدّ إسرائيل، وهذا يُثبت انّ هدفها المركزي والأساسي ليس إزالة إسرائيل، خصوصاً انّها على قناعة بأنّ هذا الهدف غير قابل للتحقُّق بمعزل عن لازمة «أوهن من بيت العنكبوت»، إنما تستخدم ورقة النزاع معها تعزيزاً لدور محور الممانعة في المنطقة.
فالدور الإيراني من دون القضية الفلسطينية يُصبح في مواجهة مباشرة مع الدول العربية التي يتمدّد على حسابها، فيما طهران تريد ان تُبقي المواجهة غير مباشرة مع هذه الدول تلافياً لفتنة سنّية- شيعية لا تصبّ في مصلحتها، وبالتالي القضية الفلسطينية هي العنوان الذي تُخفي تحته مشروعها المذهبي التوسعي.
وقد أدخل الدور الإيراني، بشكل أساسي، على المواجهة الفلسطينية البُعد الإسلامي، ومن دون العنوان الفلسطيني ينكشِف الدور الإيراني على حقيقته التوسعية المذهبية، ما يعني انّ هذا العنوان يشكّل جزءاً من علّة وجود الدور الإيراني الذي بحاجة لقضية مركزية تُخفي مشروعه الحقيقي.
وحاولت طهران قبل اتفاقها مع الرياض وبعده القول، بشكل أو بآخر، بأنّ ارتباطها بأذرعها من طبيعة عقائدية، ولكنها لا تمون على هذه الأذرع التي تتحرّك في دولها وفقاً لحيثيتها وما تراه مناسباً لأجندتها الخاصة، والهدف من هذا التعميم التبرؤ المسبق من اي ضغط على هذه الأذرع من أجل تعديل مسارها من جهة، وترسيم حدود الاتفاق السعودي-الإيراني بأنّه اتفاق ثنائي ولا يشمل المحور برمته من جهة أخرى.
وبالتوازي مع العنوان الفلسطيني المركزي لمحور الممانعة، فإنّ كل ذراع يحدِّد العنوان الذي يتلاءم مع واقعه المحلي الميداني، فالحوثي يريد السيطرة على القرار في اليمن بحجة حقه في الشراكة، والميليشيات العراقية شرعّت دورها في الدستور، و»حزب الله» يحتفظ بسلاحه بحجة مقاومة إسرائيل ويواصل ابتداع الأعراف التي تمكنه من الإمساك بالقرار اللبناني الرسمي.
ولولا العنوان الإسرائيلي لما تردّد الحزب لحظةً واحدة في الدفع نحو مؤتمر تأسيسي، ليس بهدف زيادة مشاركته في السلطة، إنما بهدف تشريع إمساكه بمفاصل هذه السلطة، ولكنه وجد أن ليس من مصلحته التمسُّك بتعديلات دستورية من الصعب تحقيقها، إنما الأنسب له ان يحتفظ بسلاحه بذريعة المقاومة ويعطِّل اي سلطة لا تتناسب مع دوره.
وعندما وجد محور الممانعة انّ التطبيع بين الرياض وتل أبيب سلك طريقه، أعطى الضوء الأخضر لحركة «حماس» لتنفِّذ عمليتها العسكرية، لأنّ الدخول السعودي على خط التطبيع يعني دخول قلب العالم السنّي ووجدانه، ويعني انتزاع حلّ الدولتين وتعويم الواقع الفلسطيني مالياً واقتصادياً لتُصبح أولويته نمط عيشه، فينتفي الدور المقاوماتي الذي يقوى بغياب الحلول السياسية ووسط بيئة فقيرة ومعدومة.
وقد أقرّ السيد حسن نصرالله بأنّه كان على علم بأنّ «حماس» تعدّ لعملية عسكرية، ولكنه يجهل التوقيت الذي تقرِّره الحركة لعمليتها وفقاً لمعطياتها الميدانية، وبمعزل عمّا إذا كان الحزب وإيران على علم بتوقيت العملية من عدمه، إلّا انّه بات من شبه الأكيد بأنّ لا «حماس» ولا «حزب الله» ولا إيران توقعوا هذا النجاح للعملية العسكرية من دون اي تصدٍ إسرائيلي، الأمر الذي أدّى إلى خروج العملية عن سيطرة الحركة، فيما كان أقصى ما تريده «حماس» ان تعلِّم على إسرائيل بعملية عسكرية نوعية تؤدي إلى ردّ فعل محدود وليس مفتوحاً على إخراجها من المعادلة الفلسطينية الجغرافية.
فلا أحد كان يتوقّع في إسرائيل وخارجها الانهيار في الدفاعات العسكرية الإسرائيلية الإلكترونية والبشرية، وما الردّ الفعل الإسرائيلي غير المسبوق إلّا محاولة لاسترداد صورة دمرِّت في 7 تشرين الأول، وبالتالي المحور الممانع يدفع وسيدفع ثمن ليس عملية «حماس»، إنما الضعف الذي ظهرت فيه إسرائيل ويشكّل خطراً على وجودها ومستقبلها.
وأحد أسباب عدم دخول طهران في حرب شاملة مع تل أبيب هو من أجل الحفاظ على ورقة الصراع مع إسرائيل التي تغطي من خلالها مشروعها المذهبي التوسعي، ولكن عملية «طوفان الأقصى» أدخلتها من دون قرار مسبق بحرب شاملة سياسياً في حال اقتصرت الحرب العسكرية على غزة، بمعنى انّ ما بدأ في غزة عسكرياً يمكن ان ينتهي في غزة عسكرياً مع إخراج «حماس» منها، ولكن الارتدادات السياسية لن تقف عند حدود غزة، إنما ستشمل الدور الإيراني في الصراع مع إسرائيل وفك ارتباط الأذرع مع هذا الصراع.
وأكثر من سؤال يُطرح على هذا المستوى: كيف ستبرِّر إيران تخلّيها عن «حماس»؟ وكيف ستبرِّر انّ شعار وحدة الساحات هو مجرّد شعار استهلاكي ولم يُترجم في أحوج لحظة كانت الحاجة فيها ماسّة لترجمته؟ وأي فصيل فلسطيني سيقف معها بعد إخراج «حماس» من غزة؟ وهل سيتساهل الشعب الفلسطيني بعد حرب 7 تشرين مع فصائل تجرُّه إلى حروب وموت وغير مسنودة إلى اي دعم ويترك الشعب الفلسطيني لقدره ومصيره؟ وهل ستكتفي إسرائيل وخلفها الولايات المتحدة بالتخلُّص من خطر «حماس» من دون معالجة الخطر من الساحتين اللبنانية والسورية، اي من خلال إبعاد إيران عن الحدود مع إسرائيل؟
وما ينطبق على إيران ينسحب على «حزب الله» الذي يحاول ان يحافظ على ماء وجهه بعنوان قواعد الاشتباك، ولكنه يتجنّب ان يكون مصيره كمصير «حماس»، وهذا يعني سقوط العنوان الثاني بعد وحدة الساحات وهو توازن الرعب، لأنّه في حال قرّر الدخول في الحرب ستدمِّر إسرائيل لبنان كما تدمِّر غزة اليوم؟
ولا يكترث محور الممانعة لكون انّ حرب 7 تشرين أسقطت حججه بالمقاومة، إنما يكترث فقط لاستمرار قوته العسكرية في سوريا ولبنان، وإعادة التهيئة لاختراق الساحة الفلسطينية عسكرياً مع الوقت، ويعتبر قوة حجته او ضعفها مجرد تفصيل، لأنّ ما يهمّه هو الحفاظ على أذرعته وسلاحه ودوره.
وتأسيسًا على كل تقدّم، فإنّ استراتيجية الممانعة في هذه المرحلة تتلخّص بثلاث كلمات: الحدّ من الخسائر، فما بين التضحية بحركة «حماس» والتضحية بالمحور لن يكون بوسعها سوى ان تتقبّل على مضض خروج الحركة من غزة، وستمارس أقصى براغماتية من أجل ان تقتصر العملية العسكرية الاسرائيلية على «حماس»، وهدف الممانعة الأول في هذه المرحلة ان تتوقُّف الحرب من أجل ان تطمئن بأنّها لن تشمل «حزب الله»، وانّ حدود العملية العسكرية لن يتجاوز غزة، ومجرد توقُّف الحرب، بنظرها، يعني تراجع الاندفاعة الأميركية وانشغال العالم بأولويات أخرى وعودة «حليمة إلى عادتها القديمة»، اي بما يُفسح في المجال أمامها لإبقاء القديم على قدمه في المنطقة، لجهة استمرار الدور الإيراني نفسه وكأنّ شيئاً لم يكن.