IMLebanon

لماذا القرار 1559 خارج التداول؟

 

 

ينحصر الكلام السياسي المعلن والديبلوماسي المُضمر، وتحديداً الأميركي، في ضرورة الانتقال من التنفيذ الشكلي للقرار 1701 إلى التنفيذ الفعلي، وفي ظل تحييد القرار 1559 عن التداول، لماذا؟

تتحدّث بعض التقارير الديبلوماسية عن انّ الوسطاء الأميركيين والفرنسيين والقطريين وغيرهم، الذين يزورون بيروت ويتنقّلون بينها وبين تل أبيب، نقلوا كلاما واضحا من طبقتين: الطبقة الأولى آنية ومرحلية بضرورة تجنيب لبنان الحرب وتكرار سيناريو 2006، والطبقة الثانية كناية عن رسالة بأنّ عدم تمدُّد حرب غزة إلى لبنان شرطه الوحيد التنفيذ الفعلي للقرار 1701، الأمر الذي لم يحصل منذ دخول هذا القرار حَيّز التنفيذ لجهة ان يكون جنوب الليطاني خالياً من اي وجود مسلّح خارج عن الجيش اللبناني والقوات الدولية.

 

ومعلوم انّ القرار 1701 وافق عليه «حزب الله» قبل إعلانه ووقّع عليه رسمياً في الحكومة التي أقرّته بالإجماع، فيما كان بإمكانه أقل شيء التحفّظ او الحد الأقصى الاعتراض، خصوصاً ان هذا القرار واضح بمضامينه لناحية خلو المنطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني «من أي مسلحين ومعدات حربية وأسلحة عدا تلك التابعة للقوات المسلحة اللبنانية وقوات يونيفل، ومنع بيع وتوفير الأسلحة والمعدات العسكرية إلى لبنان إلا تلك التي تسمح بها الحكومة، والتطبيق الكامل لبنود اتفاق الطائف والقرارين 1559 و 1680 بما فيهما تجريد كل الجماعات اللبنانية من سلاحها وعدم وجود قوات أجنبية إلا بموافقة الحكومة».

 

ولا يحقّ لـ«حزب الله» بعد موافقته على القرار 1701 ان يخوِّن او يعترض على من يطالب بالتقيُّد ببنوده، وهنا بالذات يكمن الفارق بين هذا القرار والقرار 1559 الذي اعتبره عدوانا أميركيا وإسرائيليا ضده، فيما القرار الأخير خرج بموجبه الجيش السوري من لبنان، وهو قرار دولي ولبنان يتقيّد بالشرعية الدولية، فضلاً عن اي قرار جديد يستند بشكل أساسي إلى وثيقة الوفاق الوطني ومن ثم إلى ما سبقه من قرارات، وهذا ما هو موثّق في القرار 1701.

 

وأصبح جلياً انّ كل هدف «حزب الله» من موافقته في آب 2006 على القرار 1701 وقف الحرب وتجاوز المومنتم العسكري والحدّ من الخسائر ومن ثم العمل على تفريغ مضمون القرار المذكور من خلال إبقاء القديم على قدمه، فلم يتقيّد بنصوصه وحافظ على ترسانته الحربية ودوره العسكري وابتكرَ ما عرف بالأهالي الذين وظيفتهم ترسيم حدود تحركات قوات اليونيفل.

ومن الواضح انّ «حزب الله» يرفض الإقرار بأنّ موافقته على القرار 1701 كانت اضطرارية لوقف آلة الحرب، لأن أي إقرار منه يعني انه لم ينتصر في هذه الحرب وكان يخشى كثيرا من استمرارها، فيما كان يريد فعل أي شيء لوقفها، وبعد ان توقّفت وضع خطته لتجويف القرار المذكور من مضامينه.

 

وعدا عن انّ الحزب لا يستطيع التنصُّل علناً من قرار حَظي بموافقته وتوقيعه، وفي حال فعل يضع لبنان وحكومته التي لديه الأكثرية داخلها خارج الشرعية الدولية وفي مواجهة مع هذه الشرعية، إلا انّ ما هو مطروح اليوم، بشكل أو بآخر، بالنسبة إلى العواصم المعنية تخيير الحزب بين الحرب لإبعاده إلى شمال الليطاني بالقوة، او ان يبتعد من تلقاء نفسه وان يطبِّق هذه المرة ما لم يطبِّقه منذ العام 2006.

 

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا التركيز على القرار 1701 وتحييد القرار 1559؟ وقد يكون السبب في ذلك يعود إلى الآتي:

 

أولاً، الأولوية لدى الولايات المتحدة الأميركية إنهاء الاشتباك الحدودي وليس إنهاء الأزمة اللبنانية، وإبعاد الخطر الذي يمثّله «حزب الله» على إسرائيل وبطلب منها كونها لا تريد ان يتكرّر سيناريو 7 تشرين بعد عدة سنوات ومن جنوب لبنان هذه المرة، وتريد ان تكون هذه الحرب آخر حروبها في المنطقة. ولذلك، ما هو مطروح بالنسبة لواشنطن وتل أبيب وغيرهما إبعاد خطر سلاح «حزب الله» عن إسرائيل من خلال تنفيذ ما كان قد وافقَ عليه الحزب وهو القرار 1701، وليس مطروحاً نزع سلاح الحزب تنفيذاً للقرار 1559 واتفاق الطائف.

 

ثانياً، يظهر التعامل الأميركي مع حرب غزة بأنها تريد ان تحصر الحرب في غزة وتجنُّب توسّعها، وهذا ما دفعها منذ اللحظة الأولى إلى التلويح بالعصا من جهة من خلال حاملات طائراتها وتلويحها بالدخول في الحرب في حال قررت إيران او أحد أذرعها توسيعها، والجزرة من جهة أخرى عبر إرسالها تطمينات بأنها ستكون في موقع ردّ الفعل لا الفعل، وأنها ستمنع إسرائيل من المبادرة إلى الحرب في حال التزمت الممانعة بعدم تحويلها إلى حرب شاملة.

 

ثالثاً، يظهر التعامل الأميركي أيضاً بعدم الرغبة ولا النية باستفزاز إيران لا بالكلام عن دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة، ولا بالقول والتصريح انّ ما يجب وضعه على الطاولة بالتوازي مع الملف النووي الملف المتعلِّق بالدور الإيراني التوسعي، وهذا دليل براغماتية أميركية تضع أولوية إنهاء حرب غزة وتوفير مقومات عدم تكرارها ومن دون إثارة ملفات وعناوين وقضايا كبرى تؤدي إلى تعقيد الهدف الذي تعمل عليه.

 

رابعاً، تتحدّث بعض المعلومات عن اجتمعات تعقد في جنيف وعمان بين واشنطن وطهران في محاولة لإحياء التفاهم النووي والاتفاق على حدود الدور الإيراني واستمراره بعيداً عن تهديد تل أبيب، خصوصاً انّ هناك وجهة نظر تقول انّ الولايات المتحدة لا تريد التخلّص من الدور الإيراني، إنما ضبطه تحت سقف مصالحها، والتعامل معه كحاجة لإرساء التوازن بين إيران والعالم السني وتحديداً مع المملكة العربية السعودية، ما يُبقي هذا العالم بحاجة لاستمرار الدعم والدور الأميركيين.

 

ولكن هذه السياسة الأميركية، وهي متّبعة أساساً، أصبحت تتناقض مع السياسة الإسرائيلية بعد أحداث 7 تشرين التي كوّنت قناعة لدى القيادة الإسرائيلية بأنّ الدور الإيراني لا يقلّ خطراً عن النووي الإيراني، وانّ سياسة الاحتواء مع طهران فشلت وفاشلة، لأنّ الأخيرة تتمسكن حتى تتمكّن، وتتراجع عندما ترى ان ميزان القوى ليس لمصلحتها، ولكنها ما تلبث ان تتقدّم عندما ترى انّ هناك فرصة لتسجيل النقاط في مرمى خصومها. وبالتالي، الرهان على تحييدها خطأ وفي غير محله، كما انّ البناء على موقفها الحالي غير المنخرط في المواجهة الشاملة خطأ بدوره، لأنّ إيران ليست انتحارية ولا تريد الانتحار، وتدرك انّ ميزان القوى العسكري ليس في مصلحتها، وفي حال انخراطها في المواجهة ستدفع الثمن غالياً، وهذا ما يفسِّر إمساكها العصا من وسطها: قواعد اشتباك تحفظ من خلالها ماء وجهها من دون ان تتوسّع إلى حرب شاملة، وهذا ما تتفهّمه واشنطن وتل أبيب جيداً، وهذا ما يفسِّر أيضاً التزامهما بقواعد الاشتباك القائمة بانتظار الانتهاء من حرب غزة، ولكن التقاطع الأميركي والإسرائيلي على ضرورة حصر التركيز في غزة الآن، يتحول إلى افتراق في النظرة إلى الدور الإيراني الذي تريده إسرائيل بعيداً عن دول الجوار معها، فيما أولوية واشنطن تنحصر في غزة.

 

ومن الواضح ان تل أبيب باتت ترى بأنّ السياسة الأميركية المتّبعة مع إيران منذ أحداث 11 أيلول هي خاطئة والاستمرار بها يشكل خطراً على وجود إسرائيل نفسها، لأنّ الإسلام السياسي بشِقّيه السني والشيعي يرفض السلام من خلفية عقائدية ولن يوفِّر مناسبة للانقضاض على اي محاولة سلمية او تحقيق هدفه في رمي إسرائيل في البحر، كما انّ الأخيرة أدركت انّ سياسات اليمين الإسرائيلي بالرهان على التطرف الإسلامي بدلاً من الاعتدال الإسلامي كانت خاطئة ودفعت ثمنها في 7 تشرين.

 

خامساً، ينطلق التفكير الديبلوماسي من نقطة أساسية وهي انّ التنفيذ الفعلي للقرار 1701 يؤدي عملياً إلى لبننة الحدود وتدويلها وإبعاد إيران عنها، ويُفقد «حزب الله» حجة الاحتفاظ بسلاحه، خصوصا انه عندما يخرج الحزب من جنوب الليطاني يخرج من الصراع مع إسرائيل، ويُصبح الاحتفاظ بسلاحه موجّهاً إلى الداخل اللبناني.

 

سادساً، التفكير الغربي المتقاطع مع التفكير السيادي يتعامل مع المرحلة على قاعدة انّ المطلوب «أكل العنب لا قتل الناطور»، وأكل العنب يكون بالتركيز والتشديد على ضرورة التطبيق الفعلي للقرار 1701 الذي وافق «حزب الله» عليه ووقّعه، ومجرّد تطبيقه يعني انّ الحزب فقد دوره في الصراع مع إسرائيل وان سلاحه فقد وظيفته، فيما تسليط الضوء على القرار 1559 يمكن ان يستخدمه «حزب الله» كحجّة بأنّ هناك مؤامرة ضده وان الهدف ما زال نفسه نزع سلاحه، وان يعمد إلى حَرف الأنظار عن المومنتم الحالي الذي يتطلّب تنفيذ القرار 1701 والقفز فوقه بغية تجاوز اللحظة السياسية في محاولة لإبقاء الأمور على ما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول.

 

فالمطلوب ديبلوماسياً عدم استفزاز إيران ولا «حزب الله»، إنما إخراج محور الممانعة من الصراع مع إسرائيل، وعندما يخرج يفقُد علّة وجوده، والمواجهات غالباً ما تُربح بالنقاط لا بالضربات القاضية، وعندما يطبّق القرار 1701 فعلياً بإبعاد الحزب عن الحدود يعني انّ القرار 1559 طُبِّق في جوهره والتنفيذ يأتي لاحقاً، إذ لا قيمة لسلاح من دون دور ولا وظيفة.