الدينامية الرئاسية ستُستعاد لكنها ستبقى تراوح ما لم تنخرط طهران
سيكون القرار ١٧٠١، من دون أدنى شك، العنوان السياسي الأبرز للسنة 2024، والشغل الشاغل لأهل السياسة محليا وعواصم القرار خارجيا.
تطوّر الخطاب الرسمي من تجاهل هذا القرار إلى المجاهرة بتطبيقه كاملا لا على القياس الإسرائيلي، إذ اعتبر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن «الحل موجود، وهو في تنفيذ القرارات الدولية، من اتفاقية الهدنة بين لبنان والعدو الإسرائيلي (1949)، والقرار 1701، وكل القرارات الدولية»، والتي تشمل فيما تشمل القرار 1559 الذائع الصيت.
للتذكير فإنه ينص في فقرته الثالثة على «حل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها». وليس خافيا من هو المقصود بها.
وكان القرار 1559 سببا في تحولات عميقة في لبنان من اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى الخروج المدوّي للجيش السوري، وبينهما الثورة الملوّنة والانقلاب الناعم الذي نفّذه الحزب وقاده إلى التحكّم بمفاصل السياسة والحكم والسلطة خلفا للناظم السوري الآفل.
بالتأكيد لن يرتاح حزب الله إلى هذا الخطاب الرسمي حتى لو قرن ميقاتي تنفيذ القرار 1701 بانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة. فالحزب، دورا ووظيفة واستراتيجية ومشروعا، خرج منذ العام 2006 عن الإطار المحلّي الضيق، وصار ذا تأثير إقليمي غير خفي، تقاربه تل أبيب على أنه الخطر الأكبر على أمنها القومي، فيما تنظر إليه واشنطن على أنه بعد أحداث 11 أيلول 2001، ثاني متسبِّب بأعلى عدد من الضحايا الأميركيين: 304 ضحايا نتيجة تفجير السفارة في بيروت (18 نيسان 1983) وتفجير مقر مشاة البحرية – المارينز (23 تشرين الأول 1983).
بالتوازي، تتركّز المعالجات الدولية للتوتر الحاصل جنوبا على فك الارتباط بين غزة ولبنان. وهذا ما تسعى إليه واشنطن التي تستمرّ في ممارسة ضغط هائل على الحكومة الإسرائيلية لإبقاء عملها العسكري جنوبا مضبوطا قدر الإمكان، فلا يستجرّ تصعيدا مقابلا من حزب الله سيؤدي حتما إلى إشعال حرب إقليمية. كما لا يخفى التواصل الأميركي – الإيراني للغرض عينه.
لكن النجاح النسبي لهذا المسعى الأميركي الذي يتقاسمه إسرائيلياً وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان، ولبنانياً المستشار الرئاسي آموس هوكستين (تُرتقب زيارته إلى بيروت في 15 كانون الثاني المقبل)، ليست استدامته مضمونة. إذ تُدرك واشنطن تماما أن تلك الاستدامة رهن قادة اسرائيليين صار بنيامين نتنياهو، يا للمفارقة، أقلّهم تطرفا وتشددا.
يتبيّن قي كل ذلك ان فكّ الارتباط بين غزة ولبنان قد يكون الحل الصعب ولكن الذي لا بد منه لتجنب مزيد من التدهور جنوبا.
تقود هذه المقاربة حكما إلى الملف الرئاسي. فالدينامية الفرنسية – القطرية ستُستعاد مطلع السنة، لكنها لن تكون كافية لوحدها ما لم يقرر المؤثرون الخارجيون (إيران) والداخليون (حزب الله) فك الارتباط مع غزة.
الى الآن، لا استعداد لدى المؤثرين لبنانياً للنقاش في أي ملف قبل توقف الحرب الاسرائيلية في غزة. معنى ذلك أن الفراغ على حاله، وحالة التآكل في النظام والانتظام العام على تفاقم، وترسيخ وضع اليد على البلد مستمر بثبات، وخلق أعراف هدّامة حاضرا ومستقبلا (حكومة غير شرعية تحكم زورا باسم الرئيس المغيّب، وتسطو عنوة على صلاحياته)، وتهديم بنيوي وممنهج لاتفاق الطائف نصا وروحا، هو بات يضرب من بيت أبيه.
كل هذا الواقع المرير والمتفسّخ يعيد النقاش الى طبيعته الخام. هل لا يزال النظام صالحا؟ هو بالتأكيد يحتاج الى تطوير وتحديث بعدما ثبت بالممارسة وجود ثغرات كبيرة وهائلة. سبق أن طُرحتْ أفكار عدة اصلاحية كالآلية لجعل انتخاب رئيس للجمهورية حُكميا لا رهن أهواء ومصالح، وكالمهل الرئاسية لتسمية رئيس الحكومة وللتأليف.
صحيح أن الأزمة المركبة، هي سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية، والأخطر قيَميّة، قد لا تتيح راهنا نقاشا دستوريا في العمق (بالطبع إلى جانب تهويل المنظومة وإحباطها أي نقاش مماثل) ، لكن لا بد أن يكون التطوير والتحديث في أولويات أي رئيس مقبل. فالبلد بحاجة الى ورشة اصلاح سياسي تساوي بقية الإصلاحات، تواكبها وتسير بالتوازي معها. وكل ما دون هو ترقيع وتخدير وإيغال في الكذب على اللبنانيين. سوى ذلك يقود إلى يقين بأن لا معنى لانتخاب رئيس أو حتى تجديد أركان الحكم والسلطة من دون برنامج إنقاذي.
ثمة، يا للأسف، من جعل الدستور تمثالاً من تمر: يتودد اليه ساعة يشاء وينهشه ساعة يجوع.