لأنّ لبنان عرضة لغزواتٍ متعدّدة الأوجه من قبل محورٍ مصرّ على تركيع الشعب اللبناني وقمعه وتغيير ثقافته ومفاهيمه وتشليحه حرّيته، تُحاك اليوم ضدّ هذا الشعب خدعة جديدة خطيرة ومصيرية، ومن واجب كل لبناني مُتمسّك بخصائص بلد الأرز، ومن مسؤولية السياسيين والمدنيين السياديين، تركيز كامل جهودهم وقدراتهم للتعاضد لفضح ومواجهة هذه المحاولات الخبيثة وإسقاطها، لانه لو قُدّر لها أن تمرّ، بفعل الحاجة الاقليمية والدولية للمساومات لتحقيق الهدن، لأنهت لبنان بشكل كامل وجذري.
وتتمثّل هذه المحاولات بتقديم محور المُمانعة خدماته، تسهيلاً لتنفيذٍ جزئي للقرار الأممي 1701، بما يؤمِّن الطمأنينة لشمال إسرائيل، والهدوء للمجتمع الدولي المأزوم في حروبه العسكرية في أماكن أخرى من الكرة الأرضية، والذي يُعاني من الأزمات الاقتصادية الداخلية، ويدخل إلى منافسات انتخابية حادّة. ومقابل ذلك، ينال المحور مُقايضة ثمينة في الداخل اللبناني، تتمثّل بتسليمه القرار الرسمي اللبناني. إن المحور المُمانع المتعاون وقتياً مع الجهود الدولية، يأمل في أن يُسمح له بالتحايلٍ على بنود أساسية ومهمة في القرار المذكور.
يُراهن «حزب الله» على حاجة المجتمع الدولي لتهدئة الجبهات الشرق أوسطية، مُتجنّباً الانجرار لمواجهاتٍ طويلة الأمد مع منظّماتٍ تخريبية، ركّزت تحرّكاتها على ممارسة الضغوطات الأمنية على شركات هذه الدول واقتصاداتها، لدفعها للضغط بدورها على الحكومة الاسرائيلية والآلة العسكرية الاسرائيلية، لوقف حربها الإبادية ضد «حماس»، الذراع الفلسطيني لمحور وحدة الساحات. وتلعب هذه المُنظّمات دوراً إزعاجياً وابتزازياً للسلم الدولي وللممرّات الاقتصادية الدولية، وللأحزاب في الدول الكبرى التي تستعدّ لخوض الانتخابات الرئاسية، وتمتهن المُنظّمات تفعيل أجهزتها الإرهابية لفرض المساومات الأقل كلفةً لهذه الدول ومصالحها.
إنّ الدول المتطورة والمستقرّة تُظهر الكثير من الضعف والخوف والخشية على أوضاعها الداخلية ومصالحها الخارجية واقتصاداتها، أمام هذه المُنظمات التخريبية، وتُثبت في الكثير من بلدان العالم أنّها مُستعدة للمساومة والمقايضة مع المُنظّمات، بدل دعم القوى الرافضة لها، من مبدأ استسهال دفع الضريبة الأقل كلفة من الدخول في الحروب والمواجهات العسكرية. ولذلك تتحاور معها وتقدّم لها بعض متطلّباتها، مقابل تقديم هذه المُنظّمات الكثير من الخدمات الأمنية، والتسريبات الثمينة حول الارهاب. كما تتنافس الدول الكبرى، حول تجنيد هذه المنظّمات لصالحها، واستخدامها كمرتزقة، وتشغيلها في سوق الارهاب المتبادل، وبتخاذلها بحرب القضاء عليها، تسمح لها بتطوير قدراتها وتعاظم امكانياتها، حتى تصل إلى حدود الإزعاج الاستراتيجي.
إنّ التغاضي عن الصغائر، يُدخل الكبار في لعبة الصغار، وعندما تكتشف الدول الكبرى مدى الضرر الذي أصبحت هذه المُنظّمات قادرة على ارتكابه دولياً، تكتشف أنها فشلت في تدجينها، وأنها قد نمّت وحوشاً تحت أعينها. ومثال على ذلك، المفاوضات الدولية الإيرانية، التي تجري فصولها منذ اكثر من عشر سنوات، وما زالت، وها هي ايران الثورة، قد كبُرَ وترامى نفوذها، وسدّدت الكثير من الأهداف التي أضرّت بدول وشعوب المنطقة، كما بأعمال واقتصاديات العالم بأسره. فمن خاض الحوارات والمفاوضات النووية مع ايران، قد فتح لها المجال للسيطرة على مساحات واسعة في الدول العربية، حيث باتت قادرة على شنّ حروب «التدمير المتبادل».
وها هي ايران الآن، من خلال وكيلها اللبناني تفاوض مع موفدي الدول الكبرى لتحوير تنفيذ القرار الاممي 1701، ليُصبح قراراً مُنحصراً بالشقّ الذي يعني أمن حدود إسرائيل الشمالية، في حين أنّ هذا القرار قد صدر بعد حرب تموز 2006 ببنودٍ استكمالية لبنود القرارين الدوليين 1559 و1680، وقد كان الهدف منها، ليس استتباب الأمن على الحدود بين لبنان وإسرائيل فقط، بل مساعدة الدولة اللبنانية لبسط سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، منعاً من اعادة «حزب الله» بناء قواته مجدّداً واستغلال ضعف السلطات اللبنانية الرسمية لتحديث قدراته مستقبلاً، وللعودة إلى تمكين ايران من اللعب مع الكبار على حساب الدول المُستضعفة. ولو كان الهدف من القرار 1701 فقط، إحلال الهدنة على الحدود، لما كان قد ذكر في بنديه 3 و12 ضرورة بسط الدولة اللبنانية بأجهزتها العسكرية سلطاتها على كامل الأراضي اللبنانية.
ولكن ما حدث لاحقاً، أنّه تم احترام البنود المُثبّتة للهدوء على الحدود، واستخدام «حزب الله» ليكون الشرطي المُراقب لهذه الحدود، وقد دام هذا الستاتيكو من سنة 2006 وحتى 2023، ولكان قد امتدّ لفترة اطول، وربما دائمة، خاصةً أنّه دُعّم بترسيم للحدود البحرية بين البلدين، وقد كانت النيّات واضحة لاستكماله بترسيمٍ برّي أيضاً، لولا لم تُفاجئ «حماس» الجميع، بعمليتها العسكرية على غلاف غزّة، والتي فضحت التفاهمات، وكشفت التخاذل الدولي مع المُنظّمات، وأدخلت المنطقة في تسويات جديدة، من عدادها أيضاً، تنفيذ مبتور ومعوجّ للقرار 1701.
إنّ التحايل على القرارات الدولية، ساقط بفعل وعي الأحزاب السيادية اللبنانية لمحاولات المقايضة، والتي تُمثّل خطوة جديدة للغزوات التي يتعرّض لها لبنان. وكما سقطت كافة المحاولات الخبيثة السابقة لالغاء القرار الحرّ في لبنان، ستسقط مخططات أخذ لبنان كجائزة ترضية مُقابل تسويات بين من يسعى للتهدئة في لبنان، لتركيز اهتماماته على أمور أخرى في أماكن اخرى، وبين من يسعى لتشريعٍ دوليّ لسيطرته على القرار اللبناني، وإلحاقه بمحور المُمانعة.
إنّ اللبنانيين السياديين ليسوا رهائن لأحد، وليسوا بحاجة لفك أسرهم، فالمأسورون فعلياً هم المجبرون على المساومة مع المُنظمات التخريبية لأجل تمرير مصالحهم. ويلٌ لعالم يُبدّي أعماله على المبادئ الإنسانية.