المطلب الأساس لمعظم اللبنانيين قيام دولة فعلية بسلاح واحد وحدود ممسوكة من قِبل الشرعية، أي تطبيق الدستور الذي لم يُطبّق منذ الاتفاق على «وثيقة الوفاق الوطني» في مدينة الطائف في العام 1989، ولكن؟
معلومٌ انّ هناك استحالة لتطبيق الدستور بميزان قوى لبناني في ظل فصيل مسلّح يرفض تسليم سلاحه، ويُلحق لبنان بمشروع وحدة الساحات الإيراني، وما لم تتوافر ظروف دولية موضوعية فلا فرصة واقعية وعملية لأن تستعيد الدولة مقوماتها السيادية، والاهتمام الدولي، وهذا معروف، ما زال بعيداً كل البعد عن الهمّ اللبناني السيادي، بمعنى انّ مسألة سلاح «حزب الله» غير مدرجة، ويا للأسف، على الأجندة الدولية، وما هو مدرج اليوم الانتخابات الرئاسية وتطبيق القرار 1701.
وينصّ القرار 1701، كأي قرار دولي، على القرارات الدولية السابقة لصدوره وعلى دستور الدولة المعنية، وفي حالة القرار المذكور هناك تأكيد على ضرورة الالتزام بما هو وارد في اتفاق الطائف والقرارين 1559 و 1680، ولكنه يركِّز بشكل أساسي على الوضع الذي استدعى إصدار هذا القرار، أي الحرب التي تسبّب بها «حزب الله» في تموز 2006، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تكرارها.
ولكن عدم تطبيق القرار 1701 بسبب التقاعس الدولي والرسمي اللبناني أدّى إلى حرب 8 تشرين 2023، فيما لو تمّ التشدُّد بتنفيذه منذ إقراره في آب 2006 لما تجدّدت الحرب، وكل الاهتمام الدولي في هذه اللحظة يتمحور حول عدم توسُّع الحرب والدفع باتجاه تطبيق هذا القرار قطعاً للطريق على اي حرب تموزية او تشرينية جديدة.
ولأنّ هناك استحالة لبنانية داخلية لحلّ الأزمة اللبنانية بفصلها الجديد المتعلِّق بسلاح «حزب الله» الذي بدأ مع خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005، فلا خيار سوى الشبك مع المجتمع الدولي والتقاطع معه على العناوين التي يجعل منها أولويته، فلبنان البلد الصغير غير قادر على جعل قضيته أولوية دولية، وجلّ ما هو مطلوب من القوى المؤمنة بالقضية اللبنانية ان تكون لديها الجاهزية السياسية الداخلية وان تنتظر التطورات الإقليمية التي تشكّل المدخل للاهتمام الدولي بلبنان.
والأمثلة التاريخية تؤكّد صوابية ما تقدّم لجهة ما أنتجه تقاطع الداخل مع الخارج، ويكفي التوقُّف أمام ثلاث وقائع تاريخية:
الواقعة الأولى، خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان: لقد تغاضى المجتمع الدولي عن الدويلة الفلسطينية داخل لبنان منذ العام 1967 حتى العام 1982، فأين كان مجلس الأمن مثلاً من انتهاك سيادة دولة عضو في هذا المجلس، ولماذا لم يتحرّك للدفاع عنها ومنع تفكّكها، وهل يُعقل ان يبقى في موقع المتفرِّج على حرب إبادة قتلت البشر ودمّرت الحجر؟ وفي الواقع تُرك الشعب اللبناني لقدره ومصيره، ولولا الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 الذي حرّك العالم لكانت الدويلة الفلسطينية ما زالت متحكّمة بالقرار اللبناني، إذ كانت هناك استحالة لبنانية لإخراج منظمة التحرير من لبنان.
الواقعة الثانية، اتفاق الطائف: جرت عشرات المحاولات منذ اندلاع الحرب اللبنانية من أجل الوصول إلى تسوية حول تعديلات تتعلّق بالدستور، ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل إلى ان شنّ العماد ميشال عون ما سُمّي بـ»حرب التحرير»، فتدخّل العالم كله من أجل وقف الحرب منعاً لتمدّدها، في اللحظة التي بدأ يُطبخ فيها مؤتمر مدريد للسلام، فحصل الاجتماع النيابي في مدينة الطائف وأبصرت «وثيقة الوفاق الوطني» النور، ولولا حرب العماد عون لما حصل اتفاق الطائف.
ألم يكن باستطاعة عواصم القرار الغربية والعربية الضغط من أجل تسوية طائف ما في العام 1975 بدلًا من العام 1989 وترك اللبنانيين 14 سنة فريسة الحرب والموت والدمار؟ بالتأكيد كان باستطاعته، ولكن لم يكن لبنان مدرجاً على قائمة أولوياته، وعندما شعر بخطورة استمرار الحرب وتأثيرها على مشاريعه ومخططاته الإقليمية تدخّل لإنهائها سريعاً، وقد حصل تقاطع فعلي بين رغبة داخلية ومساعٍ خارجية لإنهاء الحرب.
الواقعة الثالثة، خروج الجيش السوري من لبنان: هل كان باستطاعة اللبنانيين إخراج الجيش السوري لولا الإرادة الدولية؟ بالتأكيد كلا، وهذا لا يعني أيضاً انّ الإرادة الدولية وحدها باستطاعتها إخراجهم لولا وجود إرادة لبنانية صلبة ناضلت في هذا الاتجاه وهيأت المناخات الداخلية وشكّلت التربة الصالحة للتحرير، وبالتالي تقاطع الداخل مع الخارج أدّى إلى إنهاء الاحتلال السوري، الأمر الذي لم يكن ممكناً من دون هذا التقاطع. فأين كان مثلاً الحرص الدولي على لبنان عندما لزّمه للرئيس حافظ الأسد؟
فلا إخراج منظمة التحرير كان ممكناً بإرادة لبنانية صرفة، ولا إنهاء الحرب كان ممكناً بإرادة لبنانية صرفة، ولا إخراج الجيش السوري كان ممكناً بإرادة لبنانية صرفة، ووضعية «حزب الله» لا تختلف عن منظمة التحرير والحرب والجيش السوري، ويستحيل حلّ المعضلة المتعلقة بسلاحه بإرادة لبنانية صرفة، إنما الحلّ يتطلّب تقاطع الداخل مع الخارج، وما لم يحصل هذا التقاطع فإنّ هذه المعضلة التي تعوق قيام الدولة الفعلية ستبقى قائمة، ولو كان هناك قدرة لبنانية على معالجة هذه الإشكالية لما استمرت 19 عاماً و»الخير لقدام».
وما هو مطروح اليوم دولياً محدّد بالقرار 1701، فإما التقاطع مع المجتمع الدولي من أجل الاستفادة حتى الحدود القصوى من تطبيق هذا القرار، وإما خسارة فرصة لن تتكرّر إلّا بعد سنوات، وما حصل في حرب العام 2006 هو خسارة فرصة استعادة الحدود من إيران إلى لبنان، ويتحمّل رئيس الحكومة آنذاك والمجتمع الدولي مسؤولية التقاعس في تطبيق هذا القرار بشكل فعلي وجدّي.
والأسوأ من كل ذلك، ان هناك من يزايد اليوم بتطبيق القرار 1559، فيما كانت هناك فرصة حقيقية لتطبيقه في وقته، وقد تمّ تفويت «المومنتم» بالرهانات الخاطئة على لبننة «حزب الله»، ولو تقاطع الداخل مع الموجة الخارجية التي أخرجت الجيش السوري وكانت ترمي إلى دفع الحزب إلى تسليم سلاحه لكانت انتهت الأزمة اللبنانية بشقها السيادي، إلّا انّ تقاعس الفريق الحاكم آنذاك ورهاناته ومنطقه التسووي فوّت على اللبنانيين فرصة تاريخية.
وكل ما هو مطلوب قوله بأنّ هناك أولاً استحالة لتطبيق اتفاق الطائف او أي قرار دولي بإرادة لبنانية حصراً، كون المواجهة كانت وما زالت مع مشاريع إقليمية وتنقلت بين الفلسطينية والسورية وصولاً إلى الإيرانية، وبما يتعذر على اللبنانيين وحدهم إخراج هذه المشاريع من لبنان، كما انّ تطبيق أي شيء يتطلب ثانياً دخول المجتمع الدولي بقوة على الخط، ولا حلّ ثالثاً لأي أزمة ما لم تتقاطع الإرادتان الداخلية والخارجية، وعلى الإرادة المحلية رابعاً ان تحافظ على جهوزيتها بانتظار اللحظة التي يدخل فيها المجتمع الدولي على الخط انطلاقاً من مصالحه وأولوياته.
فما هو متاح اليوم بفعل التركيز الدولي على القرار 1701 هو تطبيق هذا القرار، وأي مطالب أخرى، ويا للأسف، لا تدخل ضمن الأولويات الدولية، ما يعني انّ إمكانية تحقيقها ما زالت متعذّرة، الأمر الذي يتطلّب التقاطع مع المجتمع الدولي سعياً إلى تطبيق هذا القرار ومواصلة النضال من هذه النقطة بالذات التي ليست بسيطة، باعتبار انّ مجرّد عودة الحدود إلى الشرعية اللبنانية والدولية يعني انتفاء دور إيران واستطراداً «حزب الله» الحدودية، وتفويت هذه الفرصة خطيئة على غرار تفويت تنفيذ القرار 1559 ومن ثم 1701 فور إقرارهما.
وعدا عن انّ كل ما هو خارج التركيز الدولي متعذِّر تحقيقه، فالقول بأنّ تطبيق القرار 1701 يؤدي إلى تحويل مشكلة «حزب الله» داخلية فهو تبسيط، كون مشكلة الحزب داخلية أساساً، وأسوأ تفكير وأخطره القائم على معادلة إما كل شيء أو لا شيء، لأنّ كل شيء ليس بمتناول اليد، فضلاً عن انّ تراجع الحزب عن الحدود هو خسارة استراتيجية له تُضاف إلى خسائر الممانعة الاستراتيجية نتيجة «طوفان الأقصى»، والمقارنة يفترض ان تكون بين الوضع قبل هذا الطوفان وبعده، كما انّ المعركة لن تنتهي عند حدود لبننة الحدود، إنما ستتواصل بعدما اكتشفت تل أبيب انّ استمرارية وجودها شرطه إنهاء الدور الإيراني الذي سقط في الهاوية في 7 تشرين الأول، وانتهاء المواجهة العسكرية يعني انتهاء جولة ستُتابع بجولات سياسية وربما عسكرية بين واشنطن وتل أبيب من جهة، وطهران من جهة أخرى، وهذه المواجهة تعني أن لا مقايضات من الآن فصاعداً، لأنّ الولايات المتحدة لن تكون في وارد تسليم لبنان لإيران، كون هذا التسليم يشكّل خطراً وجودياً على إسرائيل.
وإذا كان هناك من يسأل: لماذا القرار 1701 الآن؟ فلأنّ هناك فرصة فعلية وحقيقية لتطبيقه هذه المرّة، بعد التقاعس الرسمي والدولي في عدم تطبيقه في المرّة السابقة، وما هو قابل للتطبيق دوماً ما يندرج فقط ضمن الـ»menu» الدولي-الإقليمي، وخلاف ذلك مواصلة الدوران في الحلقة نفسها.